في بعض الأحيان لبعض المصالح، ففي مِثْله تتجاذبُ الأطراف، كما رأيت في الفاتحة خَلْفَ الإِمام، فإِنّه نهى عنها، وقد نهى، ومع ذلك ترى رَشَحاتِ الرُّخصةِ باقيةً، وكصوم الدَّهْر، فإِنَّه نَهى عنه، ثُم تترشح الرُّخصةُ أيضًا من التشبيه في بيان فَضْل صَوْم الدَّهْر الحكمي، وكالصلاة في الأوقات المكروهة، فإِن الأحاديث قد صَحَّت في النهي عنها، ثُم تجد فيها رُخَصًا من الشارع، فلا تستقرُّ الأحاديثُ في نحو تلك الأمورِ على وتيرةٍ واحدة، بحيث أن تَسْتمر بالأَمْر بها، أو النهي عنها، ولكن تارةً وتارةً، وما ذلك إلا لتجاذُب الأطراف، وتنازُع الأنظار.
ومِن ههنا ترى الأئمةَ اختلفوا في هذه المواضع غيرَ الصوم يومَ النَّحْر، فإِنَّهم اتفقوا على كونِه منهيًا عنه، وأما في سائرها فكما رأيتَ الحالَ، وهذا الذي أراده عليٌّ لما ذهب إلى صلاة العيد، فرأى رجلًا يصلِّي بالمُصلَّى، فقيل له: ألا تنهاه؟ قال: أخاف أَنْ أدخل في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)} [العلق: ٩ - ١٠] غير أني لم أَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم يصليها. وذلك لأنَّ الصلاة خيرٌ موضوع، والإِنسانُ قد يتردَّد في أن ينهى عنها.
ثُم مرَّ ابنُ عباس على مِثْل ذلك، ونهى أن تُصلّى النوافل في المسجد، وتلا قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ} ... إلخ [الأحزاب: ٣٦]، فهل وجدت المعنى، وهل دريت ما أراد هذان، جَبَلا العِلم؟ والذي يظهر أن ابن عباس نظر إلى أنَّ للشارع ولايةً خاصة على أن يمنع عن عبادة أيضًا، وأما عليٌّ فنَظرُه أَوْسع منه. فهكذا الحال في مسألة ختم القرآن، فإِنه عبادةٌ في أقل من ثلاثة أيضًا، فكيف ينهى عنها، ثم إنَّ الخَتْم (١) في أقلّ منه يوجِب الهزَّ غالبًا، وهو منهي عنه، فذلك يرجَّح المنعُ، فلم يستقر الشَّرْع فيه على شيء لذلك، ولا سبيل فيه إلَّا إلى تقسيم الأحوال، فإِن قَدِر على الخَتْم في يوم، أو أقلّ منه مع تصحيح الحروف وحصور القلب فله فيه فْضْل، وإلَّا لا ينبغي له أن يَلْعب بكتاب الله، وأولى له أن يقرأه على مُكْث وقلبه يرغبُ فيه، ويتركه وهو في هذا الحال، لا أن يملَّ منه. وإنما المناسب لوظيفةِ الحديث الاستمرارُ بالنهي عنه لسدِّ الذرائع. ومن ههنا تَتبيَّنُ مسألةٌ أُصوليةٌ للحنفية، أن النهي عن الأفعالِ الشرعية مقرر للمشروعية، بشرط أن تكون تلك العبادةُ بديهيةً واضحة.
٥٠٥٤ - قوله:(ولا تَزِد على ذلك) وفي طُرُقه لَفْظٌ عند النسائي يحتاج إلى الشرح
(١) ويؤيدُه ما أخرجه الترمذي، وأبو داود، والدارمي عن عبد الله بن عَمْرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث"، كذا في "المشكاة".