للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كان الأَمْرُ كذلك، فالنَّظرُ يَحْكُم أن يُقدّم رضاؤها على رضائه، إنْ تعارض الرضاءان (١)، فليمعن النَّظر في هذا الحَرْف: فإن ثبت أنَّ إثبات الولاية لِكونها حقَّ الوليّ قَوِي مَذْهَبُهم، وإن ثبت أنه لكونها نظريةً، تأيّدَ مذهبُنا.

ثُم اعلم أنَّ الوِلاية وِلايتان: ولايةُ إجبار، وولاية استحباب. والأُولى عندنا في الصغيرة، أما الكبيرةُ فلا إجبار عليها. ومعنى الإِجبار نفاذُ النِّكاح عليها بدون رضاها، دون جَبْرها على النِّكاح. وفَرّق الشافعية بالبَكارة، والثيابة: فجعلوا ولايةَ الإِجبار في الباكرة دون الثيب، ولم يعبأوا بالصِّغر والكِبر. وعلى هذا لا إجبارَ عندهم على الثَّيّب الصغيرة، وعندنا عليها ولايةُ الإِجبار لِصِغَرها. فالصورُ أربعٌ، ذكرها صاحِب «الهِداية»، وفصل الخلافية عن غيرها.

قلتُ: لا ريبَ أنَّ المؤثر هو الصِّغر، ولا دخل فيها للثيابة والبَكَارة، ولذا أفتى السُّبْكي - مع كونه شافعيًا - على مسألةِ أبي حنيفة، ولم ير في البَكارة البالغة ولايةَ الإِجبار.

هذا كلامٌ في شَرْح الحديثين، أما دلائلُ الحنفية فقد بسطه الشارحون، فراجعه (٢).


(١) قلتُ: ولعلهم لا ينازعوننا في أن الولايةَ في الأموال ليست إلا من باب النَّظر، فلتكن كذلك في باب الأنفس. ولعل هذا هو الذي عناه الطحاوي، فقال: وأما النظر في ذلك، فإنا قد رأينا المرأة قبل بلوغها يجوزُ أمْر والدِها عليها في بُضْعها ومالها، فيكون العَقْدُ في ذلك كلِّه إليه لا إليها، وحُكمه في ذلك كلّه حُكْم واحِد غير مختلف، فإِذا بلغت فكلّ قد أجمع أنَّ ولايته على ما لها قد ارتفعت، وأنَّ ما كان من العقد عليها في مالها في صِغَرها قد عاد إليها. فالنظر على ذلك أن يكون كذلك العَقْد على بُضْعِها يخرجُ ذلك من يدِ أبيها بِبلوغها ... إلخ.
(٢) واعلم أن الكلام في حجج الحنفيةِ، وأجوبة الخصوم طويل جدًا، لا يليق بهذه الحاشية، غير أني أشير إلى نبذة مما ذكره العلامة المارديني، قال: وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تُنْكح البكْر حتى تُستأذن"، دليلٌ على أنَّ البِكْر البالغ لا يجبرها أبوها ولا غيرُه. قال شارح "العمدة": وهو مذهبُ أبيَ حنيفة، وتمسُّكه بالحديث قويَ، لأنه أقربُ إلى العموم في لفظ البِكر، وربما يزادُ على ذلك بأن يُقال: الاستئذانُ إنما يكون في حَقِّ مَنْ له إذنٌ، ولا إذن للصغيرةِ، فلا تكون داخلةٌ تحت الإِرادة، ويختصُّ الحديثُ بالبالغين، فيكون أقربَ إلى التناولِ. وقال ابنُ المُنْذرِ: وهو قولٌ عامّ - أي الحديث المذكور -، وكل مَنْ عقد على خلافِ ما شرع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو باطل. اهـ؛ وقوله عليه السلام في حديث ابن عباس: "والبكر يستأذنها أبوها"، صريحٌ في أن الأب لا يجبر البِكْر البالغ، فترك الشافعيُّ منطوقَ هذه الأدلةِ، واستدل بمفهوم الحديث: "الثيبُ أحقّ بنفسها"؛ وقال: هذا يدلُّ على أن البِكْر بخلافها.
وقال ابنُ رُشْد: العمومُ أوْلى من المفهوم بلا خلاف، لا سيما في حديث مُسْلم: "البِكْر يستأمِرُها أبوها"، وهو نصٌ في موضع الخلاف. وقال ابنُ حَزْم: ما نعلم لمن أجَاب على البكْر البالغةِ، إنكاح أبيها لها بغير أَمْرِها، متعلّقا أصْلًا. وذهب ابنُ جرير أيضًا إلى أن البكْر البالغة لا تُجْبر. وأَجاب عن حديث: "الأيِّم أحق بنفسها"، بأنَّ الأيِّم مَنْ لا زوج له، رجلًا أو امرأة، بِكْرًا أو ثيبًا، لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} [النور: ٣٢] وكرّر ذِكْر البكر بقوله: "والبكر تستأذن، وإذْنها صِماتها"، للفَرْق بين الإِذنين؛ إذْن الثيّب، وإذن البكر. =

<<  <  ج: ص:  >  >>