قلتُ (١): ولما كانت المسألة شهيرةً بين الأنام، أردت أن أزفَّ إليك بعض النقول المهمة في ذلك، واستوعبت غررها، وأرجو من الله سبحانه أن لا تتأسف على فقد شيء بعدها، وإنما أَعرض عنها الشيخ، لما لاح له الجُنُوح إلى مذهب الجمهور.
قال في «المعتصر»: عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل شراب أسكر فهو حرام». وعنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن البِتْع، فقال:«كل شراب أسكر فهو حرام». وعن أبي موسى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لما بعث معاذًا، وأبا موسى، إلى اليمن، قال له أبو موسى:«إن شرابًا يُصنع في أرضنا من العسل، يقال له: البِتْع، ومن الشعير، يقال له: المِزْر». فقال صلى الله عليه وسلّم «كل مسكر حرام».
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن البِتْع، فجاوب بقوله:«كل شراب أسكر فهو حرام» احتمل أن يكون ذلك على الشراب المُسكر كثيرُه، فيكون حرامًا إذا أسكر، لا إذا لم يُسكر. واحتمل أن يكون قليله وكثيره حرامًا، فنظرنا فوجدنا من رواية أبي إسحاق عن أبي بُردة عن أبيه، قال:«بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنا، ومعاذًا إلى اليمن، فقلت: إنك بعثتنا إلى أرضٍ كثير شراب أهلها»، فقال:«اشربا، ولا تشربا مسكرًا». وعنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى اليمن، فقلنا:«إن بها شرابًا يصنع من الشعير والبُر، يُسمّى المِذْر ومن العسل يسمى: البِتْع»، قال:«اشربوا، ولا تشربوا مسكرًا»، أو قال:«لا تسكروا» ففيها إطلاق الشرب، والنهي عن المسكر.
فعقلنا أنَّ السكرَ المراد في الأحاديث السابقة هو ما يُسكر من تلك الأشربة، لا ما لا يسكر منها. وعن أبي موسى، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعاذًا إلى اليمن، فقلت:«يا رسول الله، أفتنا بشرابين كنا نصنعهما باليمن: البِتْع من العسل، ينبذ حتى يشتد؛ والمِزْر من الشعير والذرة، ينبذ حتى يشتد»؛ قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلّم أعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال:«حرام كل مسكر، أسكر عن الصلاة» فعاد إلى أنه لا يُمنع القليل من الشراب الذي يسكر كثيره، فإنَّ القليل لا يُسكر عن الصلاة. وارتفع التضاد بين الآثار، وامتنعَ شُرب ما يُسكر منها، وحل شُرب ما لا يسكر منها.
ومنه عن ابن عباس، قال:«حرمت الخمر لعينها، والسكر من كل شراب». وعنه:«حرمت الخمر لعينها، القليل منها، والكثير، والسكر من كل شراب»؛ رَوى ذلك مِسْعَر بن كِدَام، وأبو حنيفة، وابن شبرمة، والثوري عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن شداد، ورواه شُعبة عن مِسْعر بهذا الإِسناد، فقال فيه: والمسكر من كل شراب، بخلاف ما رواه عنه وكيع، وأبو نُعيم، وجرير، وثلاثة أولى بالحفظ من واحد.
(١) هذا من قوله - إلى قوله: من فضيلة الجامع، كان في التعليق، أدرجناه في صلب الكتاب (المصحح).