إليه كالعادة له، ويعبرون عنها كأنها وضوء النبي صلى الله عليه وسلّم دائمًا، ولا يمكن لهم غيره، فإنهم لم يَرَوه إلا كذلك، فلا بد أن يجعلوه كالعادة له، فإن الصحابة لم يتيسر لكل منهم الصُّحبة إلى زمان طويل، بل صَحِبَ بعضُهم مرةً فقط، وبعضٌ آخر أزيدَ منه وهكذا. ثم عبَّر كلُّ واحدٍ منهم عن فعله كما رآه في مدة إقامته.
فلمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلّم توضأ في بيته ووصل فيه بين المضمضة والاستنشاق وغَسْل ذراعيه مرتين، حكاه كذلك وجعله وضوءَ النبي صلى الله عليه وسلّم والذي يَذْهَل عن هذه الدقائق يَحسبُه عادةً وسُنة مستمرةً وقاعدةً مُنعقدة، ولا يدري أنه مجرد تعبير منه، لا أنَّه رأى من وضوئه مرارًا، ثمَّ حقَّقَ المسألة، ثم أراد أن يذكرَها كما يذكرون المسألة، بيد أنَّه ينقل الواقعة، وهكذا يفعله الرواة في نَقْلِ سائر الوقائع، فيريدون بها حكايتها كما وقعت ولا يتعرضون إلى تخريج المسائل وهكذا فعلوا في مهر صفية رضي الله عنها فقالوا:«وجعل عِتْقَها صَدَاقها» وفعلوا مثله في حديث استقراض الحيوان بالحيوان. وسنقرره إن شاء الله تعالى.
وإنَّما هو إلى الفقهاء فإِنهم يُنَقِّحُون المناطَ، ويخرِّجُون عنها الأصول، ويُفرِّعون عليها الفصول، والناس غافلون عن هذا الصنيع. فربما يأخذون المسائل عن تعبيراتهم وليس بشيء عندي. والحاصل: أنَّ وضوء النبي صلى الله عليه وسلّم عند الصحابة هو ما رأوه ولو مرةً، فهذا عبد الله بن زيد ليست عنده غير تلك الواقعة وحكاية الحال، فنقلها كما رآها، فليُفهم.
إلخ عنه قال:«أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخرجنا له ماءً في تَوْرٍ من صُفْر، فغسل وجهه ثلاثًا ويديه مرتين» ... إلخ. وعند أبي داود في باب الوضوء في آنية الصفر عنه قال:«جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخرجنا له ماءً في تَوْر» فدلَّ على أنَّ ما يحكي عبد الله بن زيد عن وضوئه صلى الله عليه وسلّم إنما هو واقعةٌ عنده. وعند النسائي عن أم عُمَارة أم عبد الله بن زيد ما يدلُّ على قِلة الماء في تلك الواقعة، وفيه:«أن النبي صلى الله عليه وسلّم توضأ فأُتي بماءٍ قَدْر ثلثي المُد» فكأنَّها تشير إلى ذلك. (باب قدر الذي يكتفى به الرجل من المار «نسائي») ولذا اكتفى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فيها في الغَسْل إلى المِرْفَقين بالمرتين فقط، فلو كان الوصلُ سنةً كاملةً لحديث عبد الله بن زيد ينبغي أن ولنا ما أخرجه ابن السَّكَن في «صحيحه» ونقله الحافظ في «التلخيص الحبير» عن أبي وائل شقيق بن مسلمة، قال:«شَهِدْت علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضآ ثلاثًا ثلاثًا، وأَفْرَدا المضمضة من الاستنشاق، ثم قالا: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم توضأ». وأخرج أبو داود أيضًا حديثَ وضوئهما إلاّ أنه ليس فيه التصريح بالفصل. نعم، ظاهره الفصل قطعًا، وإن كان يُتوهَّمُ من بعض الألفاظ الوصل.
ثم إنَّ عثمان رضي الله تعالى عنه إنما اهتم بوضوءِ النبي صلى الله عليه وسلّم لأنَّه اختُلف في زمانه في صفة وضوئه كما في «الكنز». عن أبي مالك الدمشقي قال: حُدِّضتُ أَن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء، فأذن للناس فدخَلوا عليه فدعا بماء ... إلخ، وهكذا فعله علي رضي الله عنه، وبَّوب أبو داود على الفصل. وأخرج تحتَه حديثًا، إلاّ أنه ليَّنَه لما فيه: ليث بن