قلتُ: بحث معه الطحاويُّ بما ملخصه: أنَّه لم يَجُز تعجيلُ الصيام، فكذا بقيةُ الكفَّاراتِ، إذ الكفَّارة بالكفَّارةِ أشبهُ منها بالزكاة، ولئن شبَّه الإِطعامَ بالزكاة، فمن أين جوَّز تقديمَ العتق؟ ولا أصلَ له يَرُدُّه إليه. ولو أعتق قبل أن يُظَاهِرَ لم يَجُز عنده، ولا عند غيره، فوجبَ أن يَرُدَّ رقبةَ اليمين إلى هذه الرقبة. فإن قال: لم يُظَاهِر بعدُ. قلتُ: ولم يَحْنَث بعدُ. والنكاحُ سببٌ للظهار، كما أنَّ الحَلِفَ سببٌ لليمين، ولا فرقَ بينهما اهـ كلامه. ولأنّ الكفارةَ للتغطية، ولم يوجد معنى يَصِحُّ أن تكونَ الكفارَة تغطيةً له. ولأنَّ قولَه: "فَلْيُكَفِّر" أمرٌ، وظاهرُه للوجوب، والكفَّارةُ لا تجب إلَّا بعد الحِنثِ، ولأنَّ الكفَّارةَ اسمٌ لجميع أنواعها، فبعد الحِنْثِ يمكن حملُ اللفظ على جميعها، وقبل الحِنْثِ خصَّص الشافعيُّ اللفظَ ببعضها، فَتَرَكَ الظاهرَ من ثلاثة أوجه: أحدِها: تسميتُها كفَّارةٌ، وليس هناك ما يُكفِّر. والثاني: صرفُ الأمر عن الوجوب إلى الجواز. والثالثِ: تخصيصُ التكفير ببعض الأنواع. وإذا قدَّمنا الحِنْثَ سَلِمْنَا من ذلك كلِّه، ويَجعَلُ "ثم" في الرواية التي لفظها: "فَلْيُكَفِّر عن يمينه، ثم ليأتِ الذي هو خيرٌ"، بمعنى الواو، كقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: ١٣] إلى أن قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: ١٧]. إذ الإِيمانُ يتقدَّمُ على هذه الأفعال. ثم إن حَوَلَان الحولِ شرطٌ لوجوب الزكاة، والسببُ هو النِّصَابُ، فلذلك جاز تقديمُ الزكاة على الحول بوجود السبب. بخلاف كفَّارة اليمين، لأن سَبَبَها هو الحِنْثُ، فلذلك لم يَجُز تقديمُها على الحِنْثِ. وليست اليمينُ سببًا، بدليل أنَّه لو بَرَّ في يمينه لم يكن عليه كفَّارةٌ مع وجود اليمين. وأيضًا فاليمينُ لا يبقى على الحِنْثِ، ولا يجوز أن يكونَ سببُ الشيء ما لا يبقى معه. وأيضًا تضادُّ الحِنْثِ، لأن الحِنثَ يُوجِبُ حلُّ اليمين، وضِدُّ الشيء لا يكون سببًا له. اهـ: ص ٢٣٦ - ج ٢ "الجوهر النقي". قال ابنُ رُشْدٍ: وكان سببُ الخلاف من طريق المعنى هو هل الكفَّارةُ رافعةً للحِنْثِ إذا وقع، أو مانعةٌ له؟ فمن قال: مانعةٌ أجاز تقديمها على الحِنْثِ. ومن قال: رافعةٌ لم يُجِزْها إلَّا بعد وقوعها. اهـ: ص ٣٥٩ - ج ١ "بداية المجتهد".