(١) قُلتُ: وعَزَاها الحافظُ إلى النَّسائي، ولفْظُهُ مختَصَرًا وقع في رواية النَّسائي: أن يُنْفَى عامًا، مع إقامةِ الحدِّ عليه، وقد تَمسَّكَ بِهذِهِ الرواية مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّفيَ تعزيرٌ، وأَنَّه ليس جُزءً مِنْ الحدِّ. وأجيب: بأَنَّ الحَدِيثَ يُفَسِّرُ بعضُهُ بعضًا، وقد وقع التصريحُ في قِصة العَسِيف مِنْ لفظ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّ عليه جلدُ مِائةٍ، وتغريبُ عامٍ ... إلخ. قلتُ: وهل فيه تصريحٌ عن النبيِّ أَنَّ التغريبَ كان حَدًا؟ نَعم، ولمَّا كان الحديثُ يُفسرُ بَعضُه بَعضًا، نقولُ: إِنَّه خارجٌ عَنِ الحدِّ، كما فسَّرهُ حديثُ النَّسائي، والذي يَظْهَرُ أنَّه متفرِّعٌ على اختلافٍ آخر بَيْنَهُم في الزِّيادَةِ بالخَبَرِ على كتابِ الله، وأَنَّه هل يُفِيدُ الكِتَاب، مع ضمِّ الحديثِ حُكْمًا واحدًا، أو هما حُكْمان: حُكْمٌ في الكِتَاب، وحُكْمٌ في الحديث. فالأوَّلُ ذَهَب إليه الشافعية، كما فعلوا في مَسأَلةِ القِرَاءة، فقالوا: بأنَّ قولَه تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: ٢٠] مع قولِه - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ إلا بفَاتِحةِ الكتاب". يُفِيدُ حُكمًا واحدًا، فاخْتَارُوا رُكْنِيَةَ الفَاتِحة. وذَهبَ الحنفيةُ إلى الثاني، فَوَضَعوا كلًا منهما على مَرَاتِبِهِما، ولَهُ نظَائِر، كقولِهِ تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: ٧٧] مع أحاديثِ تَعْدِيلِ الأَرْكانِ، وكَقولِهِ تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: ١٥] مع قولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تحريمُها التَّكْبِير". وكقولِه تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: ٢٩] مع قَولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف بالبيت صلاة". -أو كما قال- إلى غيرِ ذلك، فكذلكَ الجَلَدُ، والتَّغْريبُ، فإنَّ القرآنَ لم يَتعرَّضْ إلى التغريبِ، فالحدّ هو الذي اكتَفى به القُرآن، والتغريبُ زائدٌ في الحديث، فَحَمِلَهُ الحنفيةُ على السياسةِ، وذلك بابٌ واسعٌ في الأحاديثِ، ثُمَّ الحافظُ قد اسْتَشْعَرَ بهِ، وَفَطِنَ أَنَّ سكوتَ آيةُ النُّورِ عن ذِكْرِ التغريبِ في موضعِ البيانِ، بيانٌ فأجابَ عنه بأنَّه لا يلزِمُ مِنْ خُلوِّ آية النُّورِ عن النَّفي، عَدَمُ مَشرُوعيتِه، كما لم يَلْزَم مِنْ خُلُوها مِنَ الرَّجمِ ذلك، ومِنَ الحُجَجِ القَوِيةِ أَنَّ قِصةَ العَسِيفِ كانت بعدَ آيةِ النُّور ... إلخ. قلتُ: أمَّا ما ذكَرَهُ الحافظُ العلامةُ في الرجم، فلا نُسلِّم أَن الآيةَ خالية عنه، كيف! وحالُ الرَّجْم مع الجَلْد ليس كحالِ الجَلدِ مع التغريبِ عندَهُم. وهل يجبُ عند الشافعيةِ الجَلْدُ مع الرَّجْمِ؟ ثمَّ الرَّجْمُ ثابثٌ من كتابِ الله، والإِجماع على ما سبَقَ في غَيرِ واحدٍ مِنْ أحاديث البخاري، وباحث في الصحابةُ رضي الله تعالى عنهم، حتى يَخْلُصَ الأمر إلى أنَّه حقٌ ثابتٌ، ولولا مخافة الناسِ، لَكَتَبَها عمر في آخر القرآن. وأما الجَلْد فأين هم من ذاك؟ وأمَّا كونُ قِصَةِ العَسِيفِ بعد آيةِ النُّور، فلا حُجةَ لهم فيها، فإنَّ قِصَةَ العَسِيف لا تَصْلُحُ ناسخةً، فإنَّا لمَّا حَمِلْنَاها على السِّياسَةِ لا حاجةَ إلى النُّسخِ، كيف! والعملُ بالنَّسخ مع وُضُوحِ وجه التوفيقِ أَبْعَد. وسمعت مِنْ شيخي أَنَّ عمر غَرَّبَ مرةً رجلًا، فارتدَّ ولَحِقَ بالكُفَّارِ، فلم يُغَرَّبْ عمر بَعدَهُ أيضًا. ففي ذلك حجةً قويةً على أَنَّ التَّغريبَ لم يَكُنْ مِنَ الحدِّ، ومَنْ أَرَادَ البَسْطَ فَليَرْجِع إلى "شرح معاني الآثار" للطَّحَاوي، فإنَّه أَغْنَى، وأَقْنَى، وليس بَسَطُ المَسائِل، والأسئلةِ، والأجوبةِ مِنْ موضُوعِنا في هذا التعْلِيقِ، وقد مَرَّ بعضُ التَّفْصِيل آنفًا.