للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بعيد من طَبْعهم، فلعلّ الشرع أمر بالوُضُوء منه تلافيًا لهذا البُعْدِ، أمّا اليانع على الشجرد فإِنه بمَعْزِلٍ عن النظر، لأنه حديث عَهْدٍ بربه، وبركة من الله. وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يضع البَاكُورَة على عينيه، ويعطيه أصغر الولدان، وأمّا المطبوخ، فقد مَسَّته النار، ولَحِقَتْهُ صَنْعَة، البشر، وغيرَّته عمّا نزل إليهم، فمَحَقَت بركته، وبدَّلت قُرْب عهده بالبُعْد، ودَنَّسَتْهُ بأدناس البشر، فشأنه لا يكون شأن الثمر، فإِنه قد عُلِمَ من شأنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يَتَبَادر إلى ماء المطر، ويقوم فيه قائلًا: «إِنه حديثُ عهدٍ بربهٍ». ولم يكن يفعل مثله بسائر المياه، لأن هذا الماء بعد استقراره في حفرة أو بِرْكة تلطَّخ بأنواع الأدناس، ولن يبقَ على صفة حَدَاثة العهد.

فالحاصل: أن الوضوء من هذه الأشياء ليس كالوضوء من الأحداث والأنجاس، بل من باب التشبُّه بالملائكة والتقرُّب إليهم.

ولَمّا اختار المُصَنِّف رحمه الله تعالى مذهب الجمهور، لم يخرِّج أحاديث الجانب الآخر، وترك ذكرها رأسًا، وهذا من دأبه. وإنَّما خصَّ اللحم بالشاة، لمكان الخلاف في لحم الإِبل، فإِنه ذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى الوُضُوء منه ولو كان نِيئًا.

وقال بعضهم: إن المرادَ من الوضوء هو الوضوء اللغوي. قلت: وهو خلاف المُتَبَادر عندي، لا لِمَا قاله ابن تَيْمِيةَ، فإِن أقسام الوُضُوء قد ثَبَتَ عندي في غير واحدٍ من الأحاديث، بل لأنه لا يَشْهَدُ به الوجدان، ولا يشْهَد به العمل، وإن كان لا بُدَّ لك أن تقول به، فالأَولى أن تستدلّ عليه بما أخرجه السيوطي في «الجامع الكبير» عن «المختارة» للضياء المَقْدِسي: «الوُضُوء الناقص ممَّا مَسَّت النار» فليُحْمَل الوُضُوء في هذه الأحاديث على الوُضُوء. الناقص على رواية «المختارة»، والحافظ ضياء الدين شرط الصِّحَّة في كتابه، وقال ابن تَيْمَيِة: إنه أحسن من «المستدرك» للحاكم، ثم إن حديث: «الوضوء ممَّا مَسَّت النار»، يشتمل على القصر، وقد وجَّهناه فيما أَمْلَيْنَاه في درس «الجامع» للترمذي.

٢٠٨ - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَدُعِىَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَى السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. أطرافه ٦٧٥، ٢٩٢٣، ٥٤٠٨، ٥٤٢٢، ٥٤٦٢ - تحفة ١٠٧٠٠

٢٠٨ - قوله: (يَحْتَزُّ)، ولم يكن الاحتزاز للأكل كما يفعلونه أهل أوروبا، بل للقطع لفقط، وقطعة اللحم إذا كانت كبيرة، لا بُدَّ من قطعها. ثم تلك أمورٌ يعرفها كلٌّ بِفِطْرَتِه السليمة: أن أيها يكون للضرورة، وأيها للتشُّبه بهم، فإِن كنت أوتيت من الإِيمان نورًا فاعرفه، فإِنَّ المؤمن ينظر بنور الله، وإلاّ فأنت وشأنك، وإنما يحادل في مثل هذه المواضع من لا حياء لهم ولا دين. وصَدَقَ الله: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلًا} [الكهف: ٥٤]، والجدل: بأن لا يريد العمل، ويتعلَّل بالشُّبُهَات، ويُخَاصِم المجرد هواه، فَلَسْنَا نَشْتَغِل بجوابهم، والله المستعان.

<<  <  ج: ص:  >  >>