ظَاهرًا وبَاطِنًا، ومَنْ أَنْكَرَهُ قَصَرَ على الظَّاهِرِ فَقَط، ولم يَقُل بِنَفَاذِهِ في البَاطِنِ، وهناكَ مسألةٌ أُخْرَى عند المَالِكِية عَبَّرُوا عنها بَقَضَاءِ القاضي بخلافِ عِلْمِهِ، فقالوا: إِنَّه إذا عَلِمَ الواقِعَ، ثم جَاءَ عندَهُ المُدَّعي يُقِيمُ البينةَ بخِلافِهِ ليس لهُ أَنْ يَقْضي بِها، ولَكِنَّه يَرْفَعُهَا إلى قاضٍ آخر لِيَحْكُم بها بما أَرَاهُ اللهُ، وإليهِ ذَهَبَ الشيخُ الأَكْبَرَ، وقال: إِنَّ العَمَلَ بقَوَاعِدِ الشَّرْعِ لا يَجِبُ أَنْ تُطَابِقَ الواقِعَ دائمًا، فإذا خَالفَ الواقعَ لا يكونُ موجبًا للبَرَكَةِ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلّم «ولعلَّ بعضكم ألحن من بعض».
ومن ههنا اخْتَلَفت الأَنْظَارُ، فَذَهَبَ بعضُهم إلى أَنَّ الحُكْمَ إذا وَقَعَ على قَواعدِ الشَّرْعِ، قامَ مَقَامَ الواقعِ، فكأَنَّهُ الواقع، وإِنْ كان خِلافُه في نَفْسِ الأَمْرِ، وسَنَحَ لبَعْضِهم أَنَّه بَعُدَ على خلافِ الواقعِ كما كان، واختارَ الشيخُ الأكبر اعتبارَهُ كالواقعِ في حق الأموالِ، دون الحُدُودِ والنُّفُوسِ، لأَنَّ أَمْرَهَا أشَدُّ إلا أَنَّه سَمَّاهُ بقضاءِ القاضي بخلافِ علمه.
ولنا ما في «البَدَائعِ» نَقْلًا عن «المَبْسُوطِ»(١): أَنَّ عليًا قَضَى في رَجُلٍ ادَّعَى على امرَأَةٍ بمثلِ ذلك، فَلمَّا رَأت المرأةُ ذلكَ قالت: زَوِّجْني يا أميرَ المؤمنين، تريدُ العَفَافَ عَنِ الزِّنَا: فقال لها: شاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ فَتَأَيَّدَ ما قُلْنا، بِقَضَاءِ مَنْ كان أَقْضَاهُم وأَرْضَاهُم له، ولعلَّ قضاءَ عليّ هذا لم يَبْلُغ أهلَ المدينةِ، وإلا لقالوا به أَلْبَتَةَ، وذلك لأَنَّ مالكًا لم يَتَعَلَّم فتاوَى عليّ إلا من قِبَلِ ابنِ إِدْرِيس، فإِنَّه كان يَخْتَلِفُ إليه، ولم تَكُنْ عندَهُ ذَرِيعةٌ مستقلةٌ، فَأَخَذَ عنه ما كان عِنْدَهُ، وما فاتَ عنه فقد فاتَ عنه أيضًا.
ثُمَّ إِنَّ الطَّحَاوِي قد استدلَّ للمذهبِ من القياسِ على اللِّعان، فإِنَّ الواقِعَ فيه غَيرُ معلومٍ للقاضي، ثُمَّ إِنَّكم قلتم: إِنَّهُ يُفَرَّقُ بين الزَّوْجَيْنِ، ورأَيتُم أَنَّ تَفْرِيقَه نافذٌ باطنًا أيضًا، فإِذا نَابَ القاضي عن الزَّوْجِ في حقِ التفريقِ عندَكم حتى قُلتُم: إِنَّ تفريقَهُ طلاقٌ كذلك. قلنا: بقيامه مقامهُ في حقِّ التزويجِ، كيفَ وقد عَلِمْتُم أَنَّ الشرْعَ لم يَجْعَل الطلاقَ إلا بيدِ منْ كان له عُقْدَةُ النِّكاحِ، فلا نَرَى بين الأَمرينِ فرقًا، فكما قُلْتُم: إنَّها حَرُمَتْ عليه بعد التفريقِ، مع أَنَّها كانت حلالًا له، كذلك قلنا: إِنَّها حلَّتْ له بعدَ قضائه، وإِنْ كانت حرامًا قَبْلَهُ، وعلى عكْسِهِ نقولُ: إِنَّ القاضي إِنْ كان لا ينوبُ عنه في التزويجِ، فكيفَ نابَ عنه في التفريقِ؟ فتبيَّنَ منه أَنَّ الشرعَ عند جهالةِ الواقِعِ أَقَامَ القضاءَ مقامَ الواقعِ، وجعَلَهُ إنشاءً في الحال مِنْ ولايَتِه. ولذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلّم في قِصَة اللعانِ:«إِنَّ أحدَكُما كاذبٌ»، ثُمَّ لم
(١) قلتُ: قال الشيخُ في -دَرْسِ الترمذي- لم أجِدْهُ إلا عند السَّرَخْسِي في "المبسوطِ" ولا أَذْكُر أَنَّه ذَكَرَ له إسنادًا، ولعلهُ من المبلَّغاتِ، غَيْرَ أَن الحافظَ نقلَهُ في "الفتحِ" ثم سَكَتَ عنه، وفي "المبسوط" فتوَى الشَّعْبي أيضًا، بمثل ما مرَّ عن عليِّ.