والمشي خطوة أو خطوتين، كالنَّتْر عند ابن ماجه مرفوعًا، وهو عند الأطباء مُضِرُّ. فإِن كان ما أظنُّه صحيحًا، فالحديث على الأخيرين يَقْتَصِر على بول النَّاس فقط، ويكون معناه: أنَّه لم يكن يَحْتَاط في الاستنجاء ودفع التقطير، فابْتُلِي بالعذاب لأجل هذا التهاون، وعلى الأول يمكن أن يُرَاد من البول مُطْلَقه الشامل لبول الإِنسان وغيره، لأنَّ عدم الاتقاء من رِشَاش البول يتحقَّق في سائرها، ويكون معناه: أنه مُعَذَّبٌ لقلة مُبَالاته بالأبوال.
ثم قَتَّشْتُ عن وجه خصوصية البول في عذاب القبر، ليظهر أنَّ المراد به بول النَّاس أو مطلقه، فإِن كان ذلك المعنى مُخْتَصًّا ببول الناس، يقتصر الحديث على أبوالهم، وإن كان عامًّا فليَعُمَّ الحديث أيضًا حَسَب عمومه، ولم أرَ فيه شيئًا غير ما في «شرح الهداية»: «أنَّ أول ما يُسْأَل العبد عنه يوم القيامة، هو الصلاة». فناسب أن يكون أول ما يُسْأَل عنه في القبر هو الطهارة، لأنَّ البَرْزَخ مقدَّمٌ على الحشر والطهارة متقدِّمة على الصَّلاة، فناسب أن يُسْأَل في أول منزل من منازل الآخرة عن شرائط الصلاة.
وما وَضَح لديّ هو أنَّه لا دَخْلَ فيه لخصوصِ البول، بل النَّجاسات كلها مُؤَثِّرَة في العذاب، لأنَّ ملائكة الله تتأذَى عن النجاسات بطبعهم، والمعاملة في القبر إنما تكون معهم، فيقَعَ من جانبهم التعذيب لهذا، فالملائكة إنما يَسْتَأْنسُون بالطهارة، ويَتَنْفَّرون بالنجاسة، والبول نجاسةٌ حِسًّا، والنميمة معنًى، لأنَّها لحم الأخ.
وإنَّما خصَّ ذكر البول، لأنَّ الخِثَي والرَّوْثَةَ وعَذِرَةَ الإِنسان، وكذا سائر القَاذُورَات يَحْتَرِز عنها كلُ جاهل وعالمٍ من فِطْرَته، وقَلَّما يتحمَّل أن يتلطَّخ بشيء منها بخلاف البول، فإِنَّ عامةَ العرب لم يكونوا يبالُون به، كما صرَّح به الشارِحون في قصة بول الأعرابي: أنَّ بوله في المسجد كان على عادتهم في قلة المُبَالاة به. ولذا قال:«وما يُعَذَّبان في كبير».
قوله:(ما لم يَيبْسَا) ... إلخ، قيل في وجه تخفيف العذاب: إنَّه من آثار تسبيح الجريدة، وإنما وقته باليَبْس، لأنَّها لا تُسَبِّح بعده. وقيل: بل هو ببركة يده الكريمة، ومثل هذه الواقعة عند مسلم في أواخره، وفيها تصريحٌ باستشفاعه صلى الله عليه وسلّم لهما، ففي حديث جابر الطويل في صاحبي القبرين:«فأُجِيبت شفاعتي أن يرفع ذلك عنهما ما دام القضيبان رَطْبَان»، وهذا صريحٌ في شفاعته صلى الله عليه وسلّم وأنَّه لا دَخْل فيه للقضيب، نعم عدم اليَبْس أجلٌ فقط، فالتوقيق ليس لعدم التسبيح بعده، بل لأنَّه ضُرِبَت له هذه المدة.
ثم إنَّ الحافظين بَحَثَا في هاتين القصتين أنهما اثنتان أو واحدة، ومال الحافظ رحمه الله تعالى إلى التعدُّد، وقال: إنَّ ما في الباب قصة المُسْلِمَيْن في المدينة، وما في أواخر مسلم قصة الكَافِرَيْن في سفرٍ، وإلتزام تخفيف العذاب عن الكافر مع عدم النجاة. وذهب الشيخ البدر العَيْني إلى الوَحْدة.
أمَّا إلقاء الرَّيَاحين على القبور، ففي «الفتاوي الهِنْدِيَّة» عن «مطالب المؤمنين»: أنَّه جائزٌ تمسُّكًا بحديث الباب. قلت: وصرَّح العْيَني أنَّه لغوٌ وعَبَثٌ. وقال الخطَّابي: إِنَّ ما يفعله الناس