للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فيها، ولا تأخُّر، كالقرآن في ذهن من حَفِظَهُ، فإنه يَحْضُرُ في ذهنه جملةً، حتَّى إنه يُدْرِكُهُ أيضًا. إلَّا أنه لا تفصيلَ في تلك المرتبة، وهي مبدأٌ للتفصيل.

والثانيةُ: عبارةٌ عن الصور المخيَّلة المنفعلة في الذهن. تعرَّض إليها بحرُ العلوم في «شرح مسلم». وفي تلك المرتبة يَحْضُرُه تفصيله، نحو أن تَقْرَأَ القرآنَ في نفسك، ففيها انكشافٌ تامٌّ، وتصيلٌ كاملٌ، وإن لم يَشْعُرْ به المُخَاطَبُ.

والثالثة: عبارةٌ عن إجراء تلك الكلمات على اللسان، فالكلامُ ما دام دائرًا في النفس بسيطٌ، فإذا نَزَلَ في الخيال صار عبارةً عن كلمات مخيَّلة، ثم إذا نَزَلَ على اللسان صار كلماتٍ ملفوظةً. فالكلامُ النفسيُّ ثابتٌ عقلًا. نعم، كلامُ المصنِّف ليس إلَّا في اللفظيِّ، ومع ذلك تلك الحوادث القائمة ليست مخلوقةً. واسْتَبْعَدَهُ الحافظُ: فقال: إن في إثبات حدوثها، ونفي كونها مخلوقةً تناقضًا، لأنه لا فرقَ بين الحادث والمخلوق.

قلتُ: وهذا إنَّما نَشَأ من عدم اطلاعه على اصطلاح القدماء، فإن المخلوقَ عندهم هو المُحْدَثُ المُنْفَصِلُ، أمَّا إذا كان قائمًا لفاعله، فلا يُقَالُ له: إنه مخلوقٌ. وهذا عينُ اللغة، فإنك تقولُ: قام زيدٌ، وقَعَدَ عمرٌو، ولا تقولُ: خَلَقَ زيدٌ القيامَ، وخَلَقَ عمرٌو القعودَ، وذلك لأن القيامَ والقعودَ، وإن كانا حَادثَيْن، إلَّا أنهما ليسا بمنفصلين عن زيدٍ، وعمرٍو، فالشيءُ إذا قام بفاعله، فهو حادثٌ غيرُ مخلوقٍ.

والعجب من الحافظ حيث خَفِي عليه هذا الاصطلاحُ الجليُّ، فإن بين اللفظين بَوْنًا بعيدًا. أَلَا ترى أن المُحْدَثَ قد أطلقه القرآن بنفسه، فقال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} ... إلخ [الأنبياء: ٢]، وأمَّا المخلوقُ، فقد نُقِلَ عن أبي حنيفة وصاحبَيْهِ: أن من قال بخلق القرآن فقد كَفَرَ، هكذا نقله البيهقُّ في كتاب «الأسماء والصفات». فالمُحْدَثُ وَرَد في القرآن، وإطلاقُ المخلوق أفضى إلى الكفر. وإذا دَرَيْتَ الفرقَ بينهما، هان عليك إطلاقُ الحادث على القرآن، مع نفي المخلوق عنه، ولم يَبْقَ بينهما تناقضٌ.

أمَّا الكلامُ اللفظيُّ في دائرة البشر، فهو حادثٌ ومخلوقٌ، ومعنى قول المصنِّف: «لفظي بالقرآن مخلوقٌ»، أي إن المَوْرِدَ الذي هو صفةٌ تعالى، وإن كان قديمًا، لكن تلفُّظُنا الواردُ عليه فعلَنا وصفتَنا، وهو مخلوقٌ. ومن لم يُدْرِكْ مرادَه، ظَنَّ أنه جَعَلَ القرآنَ مخلوقًا. ومعلومٌ أن المَوْرِدَ الذي هو قائمٌ بالباري تعالى كيف يكون مخلوقًا؟ هذا تقريرُ


= فتحديثه بذلك الكلام نفسه فعل اختياري، وذلك الكلام كيفية نفسانية، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ههنا، انتهى من -شرح مخطوط عندي، على منظومة في العقائد- ثم إن كلامه هذا، وإن كان في المرتبة الثانية، دون الأولى التي هي بسيطة من كل وجه، لا تفصيل فيها أصلًا، إلا أني أتيت به ههنا، لمتانة في نفسه، فتفكر فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>