فلنبحث أولًا في حديث العْرَنِيِّين بما فيه، ويَظْهَر في ضِمْنِه جواب الخصوم أيضًا.
فنقول: أنَّ في حديث العُرَنِّيين أربعة مباحث: البحث الأول في طهارة الأبوال ونجاستها، والثاني في جواز التدَّاوي بالمحرَّم، والثالث في مسألة الحدود، والرابع في المُثْلَة.
أمّا البحث الأول، فنقول: إن حديثهم إنما يَصْلُح حُجَّةً للطهارة، إن ثَبَتَ أن إباحة الشرب كانت على معنى الطهارة، وإن كانت تَدَاوِيًا، فلا دليلَ فيه على الطهارة أصلًا، فإِنه يَجُوزُ أن يكونَ الشيءُ حرامًا في نفسه، ثم يُبِيحُه الشارع لأجل الضرورة. وما يَتَبَادَرُ من ألفاظ الرواة هو أنه كان لأجل التَّدَاوِي، لأنهم ذكروا في السِيَاق مرضهم. وقالوا:«فاجْتَوَوُا المدينة، فَعُلِم أن الأمر بشرب الأبوال إنما كان استشفاءً. ولا إيماءَ في لفظ الحديث إلى أن بناءه مكان على الطهارة.
وأيضًا عند البخاري، في باب ألبان الأُتُن قال: «كان المسلمون يَتَدَاوَوْن بها - أي بأبوال الإِبل - ولا يَرَوْن به بأسًا». ولِمَا عُرِف من أمر المسلمين أنهم كانوا يَتَدَوَوْن بها، فالأسبق إلى الذهن أن يكون ما في حديث العُرَنِيِّين أيضًا تَدَاوِيًا. وفي كلام بعض الأطباء: أَنَّ رائحةَ بول الإِبل تَفِيدُ الاسْتِسْقَاء. وقال ابن سِينَا: إن أَلبانَ الإِبل تَفِيدُه.
ثم لي فيه بحثٌ آخر: وهو أنَّ التَّداوي كان على طريق الشُرْب، أو على طريق النُّشُوق، فقد يترشَّح من الأحاديث: أنَّه كان على طريق النُّشُوق، دون الشُرْب. فأخرج الطحاوي عن أنس وفيه:«فقال: لو خَرَجْتُم إلى ذَوْدٍ لنا، فَشَرِ: تُم من ألبانها». قال: وذَكَر قَتَادَة: أنه قد حَفِظَ عنه: «أبوالها». فالرَّاوي فَصَلَ ذكر الأبوال عن الألبان، وهكذا في النَّسَائي أيضًا، وعنده: عن سعيد بن المُسَيِّب: «فَبَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى لِقَاح ليشربوا من ألبانها، فكانوا فيها». وليس (١) فيه ذكر الأبوال؛ وعنده أيضًا:«فبعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى ذَوْدٍ له، فَشَرِبُوا من ألبانها وأبوالها»، وليس فيه: أن الشُّرْب كان بأمره، أو بدون أمره.
فللباحث أن يُمَعِنَ النظر في أن فصل الأبوال عن الألبان تارةً، والاقتصار على الألبان تارةً، ثم رفع الشرب تارةً، وأخرى عدمه، لِمَ ذاك؟ ثم في بعض الطُّرُق ذكر الألبان مقدّم على الأبوال، هكذا:«وأن يَشْرَبُوا من ألبانها وأبوالها»، كما يُشْعِرُ به ألفاظ الطحاوي والنسائي، وقد مرّت.
وحينئذٍ يجوز أن يكون من باب: عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً باردًا، ولا تكون الأبوال للشرب، بل يمكن أن يكون الفعل محذوفًا من المعطوف مثلًا:«ويستنشقوا من أبوالها»، وإنما حُذِفَ
(١) قلت: ورأيت عند أبي داود روايةً في باب الجُنُب يتيمَّم، وفيها: "فقال أبو ذرٍ: إني اجْتَوَيْتُ المدينة، فأمر لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذَوْدٍ وبغنم، فقال لي: اشرب من ألبانها -وأشك في أبوالها-" ... إلخ: وحكم عليه أبو داود بعدم الصحة، وقال: ذكر البول فيه ليس بصحيح، وليست زيادة في "أبوالها" في حديث أنس رَضِيَ الله عنه، تفرَّد به أهل البصرة، فهذه أيضًا مهمة، وإنما نبَّهت عليها، لأنها في غير بابها، ربما تَضِلُّها عند الحاجة.