للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثم ظَهَرَ أنَّ الحديثَ وَرَدَ على عاداتهم، فإِنهم لم يكن عندهم مكانٍ مستوٍ غير مَرَابضهم، وكانت الغنم أعزَّ أموالهم، فكانوا يَسْكُنُون معها، ويَجْلِسُون في مَرَابِضها، ويَتَحَدَّثُون فيها، بخلاف الإِبل، فإِنه لا يَجْلِس في مكانٍ مُسَطَّح، على أنه لا دليلَ فيه على أنهم كانوا يُصَلُّون على الأبوال والأزبال أيضًا، لأنهم لَمَّا كان مَطْعَمُهم ومَشْرَبُهم ومَسْكَنُهم فيها، فلعلَّهم كانوا يْنَظِّفُون مكانًا لأنفسهم، ولصلواتهم أيضًا. ويدلُّ عليه ما عند محمد (١) في «موطئه»، عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أَحْسِن مَرَابِضَ الغنم، وأَطِبْ مُرَاحها، وصَلِّ في ناحيته»، ورفعه البيهقي، وأَتردَّد في رفعه، ويمكن أن يكون وهمًا، فدلَّ على الصلاة في الناحية، أي مُنَتَحِيًا عنها.

وقد مرّ مني ترجمته في الهندية: يكسو هوكر. وقد مرَّ عن ابن حَزْم أنه ذَهَبَ إلى نَسْخِه، وقال: إنه منسوخٌ بما وَرَدَ في تطييب المساجد وتنظيفها عند أبي داود بسندٍ قوي، ولا أدري ما حَمْلَه على النَّسْخ، إلاّ أن يكونَ اختار نجاسةَ الأزبالِ والأبوالِ.

قلتُ: أمّا كونه منسوخًا، فالله أعلم به، ولكن ما تحقَّق لدي هو أنَّ المطلوب من هذه الأمة ابتغاءُ الوقت ومراعاتها، بخلاف بني إسرائيل، فإِنهم كانوا مأمورين بابتغاء الأمكنة، وكانت مُرَاعَاتُها عندهم أهم من مُرَاعَاة الأوقات، ولذا كانوا يطلبون البِيعَ والكنائس عند صلواتهم، ثم لمَّا بُنِيت المساجد أُمِرْنا بتقيُّد المساجد أيضًا.

فالصلاة في المَرَابِض إنما كانت قبل بناء المساجد، كما في البخاري في باب الصلاة في مَرَابِض الغنم، عن أنس: «كان يُصَلِّي في مَرَابِض الغنم قبل أن تُبْنَى المساجد». وفي هذه الصفحة قبله بقليل: «وكان يُحِبُّ أن يُصَلِّي حيث أدركته الصلاة، ويُصَلِّي في مَرَابِض الغنم». وفي باب قول الله عزّ وجلّ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: ١٢٥]: ثنا إبراهيم التَّيْمي، عن أبيه قال: «سمعت أبا ذرٍ قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ مسجدٌ وضع في الأرض أوَّل؟ قال: المسجد الحرام. قلتُ: ثُمَّ؟ قال: المسجد الأقصى ... ثم أَيْنَما أَدْرَكَتْكَ الصلاة، فصلِّه، فإِن الفَضْلَ فيه». فدلّ على أنَّ الاعتناء أولًا كان بموضع تُدْرِكُهُ الصلاة فيه، ولَمَّا كانوا يَسْكُنُون في المَرَابِضِ، كانوا يُدْرِكُون وَقْتَها فيها، فكانوا يُصَلُّون هناك لهذا. ولذا قَرَنَ الرَّاوي بين الصلاة في المَرَابِض، وبين أَحِبِيَّة الصلاة حيث أَدْرَكَتْهُ، فهذا بمنزلة التَّرَقِي، يعني أنه كان يحب الصلاة، ولو أدركته وهو في المرابض، فَيُصَلِّي فيها أيضًا.

أما أدلة النَّجاسة، فأقول: أولًا إنه يُعْلَم من سِيَاق القرآن نحاستها، لأنه عَدَّ الفَرْث مع الدم، وقال: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: ٦٦] وأمّا عند الترمذي: «أنه صلى الله عليه وسلّم نَهَى عن أكل الجَلالة وألبانها»، وفي القاموس: الجَلَّة البَعْرة. فَعْلِمَ المناط، ولا منعنى فيها إلا أنها نَجِسَة، وفي الحديث: «من دَخَلَ المسجد، فَلْيُمِطُ الأَذَى عن نَعْلَيْه»، وقَصْرُه على عَذِره الإِنسان مستبعدٌ جدًا. «وأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم نَهَى عن الصلاة في المَزْبَلة». «وأنه ألقى الرَّوْث، وقال: إنها رِكْسٌ».


(١) قلت وفي العيني عن مسند البزار أحسنوا إليها وأميطوا عنها الأذى.

<<  <  ج: ص:  >  >>