للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

المُعْجِز؟ والكلام كلما ارتفع تحمَّل الوجوه واحتمل المعاني، ولذا قال تعالى: {ولقد يَسَّرْنَا القرآنَ للذِّكْرِ فهل من مُدَّكِر} [القمر: ٣٢] وهذا أمر وراء التيسير، فالقرآن يسير ومع ذلك عسير، انقضَّ به ظهر الفحول، ومعنى يُسْرِه قد بَّينَاه.

ثم إنَّ الأمرَ إن كان كما سمعت آنفًا من أنه لا تحديد فيه لا في الخارج ولا في الحديث، وإنما التحديد فيه ضرورة بالاجتهاد، فأبو حنيفة رحمه الله تعالى أَسْبَقُ فيه من الكل، وعنده في ذلك إشارات وعبارات من النصوص، كما في حديث أخرجه الترمذي في خُطبة النبي صلى الله عليه وسلّم في أبواب الإيمان وفيها: «فتمكث إحدَاكُنَّ الثلاث والأربع لا تصلي». اهـ. وتمسَّك به الطحاوي (١) في «مشكله». وما عند ابن ماجه وفيه زيادة: وفي الخارج أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن يُضَاجِعُهُنَّ إلى ثلاثة أيام، ثم يُضَاجِعُهُنَّ بعد أن تَتَّزِرْنَ. وهذه كلها تنزل على مذهبنا لأنه لم ينزل فيه عن الثلاث.

ولنا أثر أنس رضي الله عنه صححه في «الجوهر النقي» وإن تأخر عنه البيهقي، وأثر عثمان بن العاص عند الدارقطني. وأورد علينا الشافعية أن الشهر إذا لم يَخْلُ عن طُهْرِ وطَمْثٍ، وتَكَرُّر الطَّمْثِ في الشهر نادرٌ، فيلزم على مذهبكم أن لا يستقيم الحساب، فإن أقلَّ الطُّهر خمسةَ عشرَ اتفاقًا بيننا وبينكم، فلو كان الطَّمْثُ أكثرُه عشرةَ أيام، يلزم أن يبقى خمسة أيام من الشهر مهملًا غير معدود في الطمث ولا في الطهر، بخلافه على مذهبنا حيث قسمنا الشهر عليهما، فجعلنا النِّصف للطَّمْثِ والنصف الآخر للطُّهر.

أقول: أما أولًا: فعن الإمام كما في «النهاية»: أن أكثره عشرة، وأقل الطهر عشرون يومًا، فيستقيم الحساب على مذهبنا أيضًا. وأما ثانيًا: فلأن أقلَّ الطهر ليس عندنا خمسة عشر يومًا مطلقًا، بل هو عشرون يومًا في بعض الصور، كما في المُسْتَحاضة المبتدَأة، فيستقيم الحساب ولو في الجملة. وأما ثالثًا: فلأن تكرُّرَ الطهر وإن كان نادرًا إلا أنه ليس معدومًا محضًا، فينبغي النظر إليه أيضًا. وفي «المواهب اللَّدنية» إسنادًا: «أن الله سبحانه لما أهبط حواء أخبرها أنها تَحْمِل كُرْهًا وتضع كُرْهًا» وفي آخره: «ولأُدْمِيَتَّها في شهرٍ مرتين»، ومع هذا ذهبوا إلى أن التكرار نادر، وفي إسناده سُنَيْد، وهو من القدماء ومفسِّر للقرآن. وهذه الرواية عند ابن كثير أيضًا إلا أنه ليست في آخره تلك الزيادة، وحينئذ يمكن أن يكون بناؤه على تكرر الحيض وإن كان نادرًا.

ثم إنهم تمسكوا من قوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ من المَحِيضِ فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أشهر} [الطلاق: ٤] حيث حسب فيه الشهر عن طهر وطَمْث، وإذا كان أقلُّ الطهر خمسةَ عشرَ بالاتفاق، فالباقي للطمث لا محالة، وهو خمسة عشر، وبناؤه على تكرر الطمث بعيد لأنه نادر.


(١) قال الطحاوي بعد سَرْد الحديث المذكور: ولا نعلم شيئًا رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مقدارِ قليلِ الحيض غير ما ذكرنا، فكان هذا مما قد دلَّ على مقداره، وأنه أيام وليال، وأوجب القول به وترك خلافه. والله أعلم، وإياه نسأله التوفيق.

<<  <  ج: ص:  >  >>