أباح المصنِّف رحمه الله تعالى للحائض والجُنُب أن يقرآ القرآن.
قوله:(وقال إبراهيم) وهو النَّخَعِي، وفي قراءة الآية خلاف بين الكرخي والطحاوي، وهما معاصران، وأظن أن الطحاوي كان شيخًا وهذا شَارِخًا إذ ذاك، فذهب الطحاوي إلى إباحة القراءة بما دون الآية لهما، ومنع عنها الكرخي مطلقًا.
قلت: ولعلَّ نظر الطحاوي أن التحدي لمَّا لم يقع إلا بالآية، فالإعجاز يكون فيها، بخلاف المفردات، فإنها مستعمَلَة فيما بينهم أيضًا، فلا إعجاز فيها، ولذا لم يقع التحدي بها. على أنّا لو منعنا عنها يلزم الحَجْر عن التكلم، لأن مفرداتِ القرآن ومفردات كلامهم سواسية. وهذه حقيقة عظيمة راعاها الطحاوي ونَبَّه عليها، حيث دل على أن ما دون الآية ومفرداتها لا يسمى قرآنا، ولا يكون له حكمه، فيجوز قراءته ومَسّه، ولو لم يدلَّ عليه لبقينا في حيرة ولم نَدْرِ أن ما دون الآية قرآن أم لا. والذي يَسبِق إلى الذهن في الظاهر أن مجموعَه قرآنٌ بما فيه، فيكون كل لفظ قرآنًا، ويُشْكِل الأمر، فَنَبَّه على أن القرآن لا يُطْلَق على ما دون الآية بل يقال له: إنه من القرآن وجُزء منه، وهو معنى ما في «المشكاة».
فَضَّل فيه القرآن على الأذكار مع أنَّ جُلَّ الأذكار جزء من القرآن، فجعلها من كلام الله ولم يجعلها كلامَ الله بعينه، فدلَّ على أنَّ الإعجاز في قيام هيئة الآية. وتلك الكلمات لمّا لم تكن آيةً كاملة لم تكن معجزة، فلم تكن كلام الله، بل من كلام الله فانحطت درجتها عنه.
وعندنا تفصيلٌ آخرُ أيضًا، وهو: أن قراءة الآية إن كانت بطريق التلاوة لا يجوز، وإن كانت بطريق الذِّكْر فيجوز. ثم اختُلِف في اشتراط اشتمالها على مضمون الذِّكر وعدمه، ثم إن المصنِّف رحمه الله تعالى أخرج قِطعة من قصة عبد الله بن رَوَاحة في صلاة الليل، وهي مفصَّلة عند الدارقطني، وفيها دليل على أنَّ الجُنُب ليس له أن يقرأ القرآن، «فإن زوجتَه رأتهُ يطأ جاريةً له، فغارت عليها، فوجدته نائمًا، فجلست على صدره وهددته بالقتل، فقال ابن رَوَاحة: ما جامعتُها، فجعل يقرأ أشعارًا يُرِيها كأنه يقرأ قرآنًا، ولم تكن قارئةً، فحسِبته قرآنًا وأرسلته»، فدلّ على أنَّ القرآن كان ممنوعًا على الجنب عندهم بحيث كان يعلمه مَن قرأ ومن لم يقرأ.
قوله:(ولم يَرَ ابن عباس رضي الله عنه) ... إلخ. ولنا أحاديثُ مرفوعةٌ أخرجها أصحاب السنن.
قوله:(وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يذكر الله على كل أحيانه) وشَرَحَهُ بعضهم أن المراد من الذِّكر هو الذكر القلبي، وليس بسديد عندي، فإنه لا يُقال له ذِكر لغةً، إنما هو فِكرٌ، والذي يعرفه أهل اللغة هو الذكر باللسان، جهرًا كان أو سرًا، والمراد عندي أنه كان يذكر الله في كل أحيانه المتواردة، لأن حال الإنسان على نحوين: حاله المتشابه، والثاني: المتوارد، أعني به كالقيام من القعود وبالعكس، ودخوله في المسجد والخروج منه، وكذا دخوله في السوق والبيت