أنها عورة، وبعضها يدلُ على أنها ليست بعورة، بخلاف أصل الفخذ فإنك لا تجدُ دليلا يُشعر بعدم كونها عورة.
وكأني أريدُ أن الاختلافَ في الأدلة قد يكونُ من جهةِ الشارع قصدًا، ولا يكون من الرواة، وهذا حيث يريدُ صاحبُ الشرع بيان المراتب، فإذا لم تكن عنده مراتبُ في جانب الأمرِ أو النهي لم تعط مادةٌ تدلُ بخلافه، وإذا كانت فيه مراتب بعضها أخفُّ من بعض وأرادَ فيها توسيعًا يؤديه بعرْضِ الكلام ولا يأخذه في الخطاب، لأنه لو أخذه في الخطاب فات الغَرَضُ وهو العمل، فإنه إنما يبقى ما دام الإجمال، وإذا جاء التفصيلُ ذهبَ العملُ، ولذا نرى العوام قد يسبقونَ على العلماءِ في العمل، فإنهم لا يفرِّقون بين الفرائض والسنن والنوافل، فيؤدُّونَها على شاكلةٍ واحدةٍ.
وأما الذين يعلمون أن النوافلَ في طوعه كلما شاء فعل، وإذا لم يشأ لم يفعل، فإنهم تفترُ هِمَمُهم، وتتقاعدُ عَزَائِمُهُم، فَيُفْقَدُ العمل. فإذا كان حالُ التخفيف في الخطاب ما قد علمتَ، ولم يكن بدٌّ من بيان حقيقة الأمر أيضًا، احتاج إلى التنبيه عليه بنحوٍ من أنحاء الكلام وجوانبه وأطرافه، بدون أخذِهِ في العبارة وطريقهُ أن تَرِدَ الدلائل في الطرفين، فيوجدُ الاختلاف ولا يحصلُ الجزمُ بجانب فيخِفَّ الأمر، وهذا أيضًا نحو بيانٍ إذا لم يَرِد التصريح به.
وهذا الذي أراده صاحب «الهداية» حين قَسَّمَ النجاسة إلى الغليظة والخفيفة، حيث قال: إن التخفيفَ إنما يثبت عند أبي حنيفة رضي الله عنه بتعارُضِ النصين، وعند أبي يوسف رضي الله عنه باختلاف الصحابة والتابعين، فنظر أبو حنيفة رضي الله عنه إلى تعارض الأدلة، فجاءت المراتب عنده من حيث قَطْعيَّةِ الدليل وعدمها، ونظر صاحباه إلى التعامل، لأنه شيءٌ فاصل في الباب، بخلاف الأدلة فإنها موارد للاحتمالات.
إلا أن صاحب «الهداية» قرر الخِفَّة لتعارض الأدلة. وأقول: إن تعارضَ الأدلة لأجل الخِفة في نظر الشارع. فأدَّاها بهذا الطريق، لا أنه اتفقَ تعارضُ الأدلة باختلاف الرواة، فأورث خِفةً فيها، بل تلك النجاسات بحقائقها كانت خفيفةً بالنسبة إلى الدم مثلا، فأراد التنبيهَ على الفرق بينهما، فلو صرَّح به لتهاون بها الناس، مع أن المطلوب التوقي منها، فأدَّاها بإِعطاء المادة للطرفين، ليتردد فيه النظر ويَخِف الأمر مع بقاء العمل. وعلى هذا وَسِعَ لي أن لا أتأول في أحدٍ من الأحاديث التي وردت في هذه الأبواب على خلاف مذهبنا واكتفي بالمراتب.
وأقول: إن أصل الفخذ عورة ولكن أمرها أشد من رأسها، وكذلك الاستدبار، وإن ورد به حديث ابن عمر رضي الله عنه، لكنه لا يثبتُ به، إلا أنه أخفُّ بالنسبة إلى الاستقبال أو الصحراء، وهكذا النواقض كلها كما دلت عليها الأحاديث، إلا أنَّ أمرَها أخفُّ مما ذهب إليه الحنفية رضي الله عنهم، فافهمه بعين الإنصاف وإمعان النظر، ينفعك في مواضع لا تُحصى.