قوله:(الغابة) موضعٌ معروف من عَوَالي المدينة. واختار الحافظ رحمه الله تعالى أن المنبرَ عُمِلَ في السنة التاسعة. وعندي رواياتٌ تدُل على أنه متقدِّمٌ بكثير، وإنما عارضتُ فيه الحافظَ رحمه الله تعالى، لأنه يُعْلَمُ من بعض الروايات أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قام متكئًا بجذعٍ في المسجد في واقعة ذي اليدين - وكانت تلك الجذعُ هي الأَسطُوانة الحنَّانة، كما أشار إليه القاضي عياض، وقد دفنت حين عُمِلَ له المنبر - فيدل على أن واقعةَ ذي اليدين متقدمةٌ جدًا. وهذا ينفعُ الحنفية في مسألة نسخِ الكلام كما لا يخفى، بخلاف ما اختاره الحافظ رحمه الله تعالى، فإِنه يمكن أن يكونَ واقعة ذي اليدين في السنة الثامنة مثلا، وكان قيامُهُ بتلك الجذع لأنه لم يُعمَل له المنبرُ إذ ذاك، فيدلُ على تأخُّرِ هذه القِصة جدًا. وسَهْلُ بن سَعْد هذا آخرُ الصحابة المدنيين وفاةً.
قوله:(ثم رجع القَهْقَرَى)، قلت: إنما كان ذلك بخطوتين وهو عمل قليل، لأن منبر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عُمِلَ بثلاث درجات، فلو كان قيامُهُ على الدرجة الثالثة أمكنَ نزوله عنها بخطوتين، وهذا عمل قليل. وحقق ابن أمير حاج: أن المشي الكثير أيضًا غير مفسدٍ إذا كان متفاصلا. ثم في الحديث دليل على جواز كون الإِمام أعلى من القوم، ونهى عنه عند أبي داود. قال النووي: كراهة الارتفاع إنما هي عند عدم الحاجة، فإِن كان لحاجةٍ بأن أراد تعليمَ الصلاة لم يُكره، بل يستحبُّ لهذا الحديث، وكذا إن أرادَ المأمومُ إعلامَ المأمومين بصلاة الإِمام، واحتاج إلى ارتفاع. انتهى مختصرًا.
قلتُ: وكذا في «الدر المختار» عن «الاختيار»: أنه يجوز للإِمام إذا احتاج إليه، إلا أن لي فيه ترددًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان عليه طردُ الدين وعكسُهُ، وأما مَنْ بعدَه فلا أرى أن يُسوَّغَ له ذلك؛ لأنه ليس اليوم أحدٌ منهم يتقصرُ عليه التعليم، فليقصر عليه صلى الله عليه وسلّم ولا يوسَّعُ به في حق سائر الأئمة، لأن الضرورة تحققت في حقه صلى الله عليه وسلّم خاصة.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّم إنما فعل كذلك لأنه لم يتفق لهم رؤية صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم قبله، إلا لمن كان في الصف الأول، فأراد أن يشاهدوا جميعَهم مرةً ليتعلَّموا صلاتَه، ويحفظوا عنه، كما هو عند مسلم:«يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتَمُّوا بي، ولتَعَلَّمُوا صلاتي»، كأنهم قبل ذلك لم يشاهدوا صلاةَ النبي صلى الله عليه وسلّم وإنما أْتَمُّوا به بواسطة الصف الأول، فأراد أن يكون الجميع سواءً في رؤية صلاته والائتمام به، وهذا سائغ للشارع. أما من كان إمامًا كسائر الأئمة، فلا أرى له هذا التوسيع. والله تعالى أعلم.
ثم التَّحيُّرُ من ابن حَزْم حيث مرَّ على هذا الحديث، وادَّعى أن تلك الصلاةَ كانت نافلةً، وتمسك بالجماعة في النافلة، وشدَّدَ على من أنكرها، مع التصريح في الصحيح أنها كانت صلاةُ الجمعة. ثم لا يذهبُ عليك أنَّ الراويَ لا يذكرُ للمقتدين ههنا قراءةً، ولا يقول: فقرأ وقرأ الناس معه، وذلك لأنه لا قراءةَ في الجهرية مع الإِمام، وليست في «الأم» عند الشافعي رحمه الله تعالى، غير أن المُزَني يحكي عن الربيع روايةَ القراءة في الجهرية عن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى، فاحفظه ولا تغفُلْ.