وقال: تقدير هذه الترجمة هكذا: بابُ قِبْلة أهلِ المدينةِ وأهلِ الشَّامِ والمشْرِقِ والمغربِ ليس في التشريق ولا في التغريب. يعني أنَّهم عند الانحرافِ للتشريقِ والتَّغْرِيبِ ليسوا مواجهين للقِبلة ولا مُسْتَدْبِرِين لها، ولم يستثنِ منه إلا جزئيًا واحدًا، وهو ما قابلَ شرق مكةَ من البلاد التي تكونُ تحت الخطِّ المارِّ عليها من مشرِقها إلى مغربها، فتكون قِبلتهم فقط في هاتين الجمعتين، ولا يجوز لهم استعمال حديث أبي أيوب، ولا يصح لهم أن يُشَرِّقوا أو يُغَرِّبوا، وإنَّما يَنْحَرِفون إلى الجنوب والشمال، وأما سائرُهم فلهم التشريق والتغريب على حديثِ أبي أيوب مثلَ أهل المدينة.
قلتُ: وهذا كله كلامٌ باطلٌ، ولم يحمله على ذلك إلا قوله:(ليس في المشرق) ... إلخ، فَحَملَهُ على شرق العالم وغربه، وتعجبت من قوله، كيف ساغ له أخذه بهذا العموم، مع أنَّ المصنف رحمه الله تعالى لم يسمِّ مِنْ جانبه إلا ثلاثة: أهل المدينة، والشام، والشرق، ثم بَيَّنَ قبلتهم بقوله:(ليس في المشرق) ... إلخ، ثم إنَّ قِبلة المصنف رحمه الله تعالى أيضًا في المغرب، فيلزم أنْ يكون هو أيضًا جاهلا عن قِبلته مدة عمره، على أنَّه يوجب أنْ لا تصحَّ عنده صلوات أهلِ الهند كلِّهم، لأنهم يُصلّون إلى المغرب، وليست فيه قِبلة عندَه لأَحَدٍ مِنَ العالمين، وكذا صلاة كل من كانت قبلتهم على سَمْتِهم، وتلك الآفة إنَّما حَدَثَتْ مِنْ حيث أنَّ الهيأةَ ليست مِنْ فَنِّهم، ولِكُلِّ فنٍ رجال، فإذا لم تتحقق عنده سَمْتُ القِبلة ولم يَدْرِ جِهَاتِ البلاد، تيسر له نفي القِبلة عن هاتين الجهتين مطلقًا، مع أنَّه بديهي البطلان، فكيف يليق أَنْ يعزوا ذلك إلى ذي شأن مثل المصنف رحمه الله تعالى.
والحق عندي: أنَّ المصنفَ رحمه الله تعالى لم يَتَعَرَّضْ فيها إلى قِبْلَة كافةِ النَّاسِ، بل أَرَاد أَنْ يَذْكُرَ قِبْلَةَ هؤلاء الثلاثةِ فقط، وإنَّما خَصَّصَها بالذِكْرِ لأنَّ أَهْلَ المدينةِ وَرَد فيهم الحديث، ولذا جعلها عمودًا في الترجمة، وكذلك ذَكَر فيه الشام أيضًا، حيث يقولُ أبو أيوب:«فقدِمنا الشام»، ولاتصاله بأرض العرب، لأنَّ العرب مُحَاط بالبحرِ من جوانبه الثلاثة، ولا يتصل بالبر إلا مِنْ هذا الجانب، وهذا هو السِرُّ في عدم تعيين حدوده بعد، لأنَّ تقسيم البلادِ لا يكونُ إلا بالجبالِ أو البحار، ولا يكون باعتبار السَّلْطَنَة، فإِنَّ الملوكَ يَعْلُو بَعْضُهُم على بعض، وتكون الحرب سجالا، فلا تتعين حدودها، وليس هناك جبال أو بحارٌ ليقع التمييز بها، فيبقى فيه الاشتباه بعد، ولأن الشام مورد الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأَبدال، وفيه خصائص أخرى أيضًا، ثم أراد المصنِّف رحمه الله أَنْ يَسْحَبَ حُكْمَه على الجوانبِ والأطراف، فسمى الشَرْقَ وتَرَكَ الغرب، لأنَّ معظم المعمورة في تلك الجهةِ فقط، وأرادَ مِنَ الشرقِ شَرْقَ داخل العرب، لأن الإِسلام لم يخرج من بعد، بل شَرْقَ الحرمين الشريفين كالعراق ونجد، وهو عُرف الحديث، فلا تراد منه إلا هذه البلاد دون شَرْقِ العالم كُلِّه، وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلّم «شرِّقوا أو غرِّبوا» أيضًا يكون في أهلِ المدينة عنده، لا كما وَهِمَ ابنُ بَطَّال، بل أقول إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أَخَذَ ترجمته مِنْ حديثِ أبي أيوب وَبَنَى عليه، ولمَّا كان حديثُه خاصًا بأَهْلِ المدينةِ عِنْدَهُمْ جميعًا مع عُمُومِ أَلفاظِه، عَبَّر أيضًا على نهج تعبيره، فَهَلا حملوه على العموم أيضًا، فكما أَنَّ الحديثَ مع عُمُومِ ألفاظِهِ محمولٌ على قِبْلَةِ أهلِ المدينة، فبجنبه قولُ المصنِّف رحمه