وبعد اللُّتيا والتي إذا لم تكن نِسبة الأعمال إلى الإيمان كنسبةِ الأجزاءِ إلى الكل، ولا كنسبة الأوراق، والعُروق، والأغصان إلى الشجرة، فكيف نسبتُهُ إليها؟ فالجواب: أن النِّسبة بينهما على نَظَر الحنفية كنسبةِ الأصل إلى الشجرة والشجرة إلى الثمرة، فكما أن الشجرةَ نابتةٌ من أصلها، ثم الثمرةُ من تلك الشجرة، كذلك الأعمال تنبُت من الإيمان، فهو المبدأ وهذه آثارها. وكما أن الثمارَ تبدو وتسقط، تجيء وتذهب، كذلك حال الأعمال مع الإيمان فتكون قد وقد. وقوله تعالى:{أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآء}[إبراهيم: ٢٤] فالأصلُ هو الإيمان، والفُروعُ هي الأعمال، ولعل حديث شُعب الإيمان أيضًا على الفرعية لا الجزئية.
فلا أقول كما هو المشهور: أن نِسْبةَ الأعمال إلى الإيمان كنسبة المُكِّمل إلى المُكَّمل، ولا أجعله في التعبير مكملًا للإيمان، بل لا أحب أن أقول: إنها كنسبة الثمرة إلى الشجرة أيضًا، فإن المقصودةَ من الشجرة الثمار، فتكون الأعمالُ مقصودةً، والإيمان تابعًا مع أنه أصل وهي فرع تنبُت منها. فالتعبير الأوفى هو: الأصلية والفرعية.
ثم إني مع التتبُّعِ البالغ لم أجِدْ صورةَ الإيمان في المحشر، ووجدت صورَ الأعمال كلها تقريبًا. وهو على ما أقول: إن الأعمالَ تتجسدُ في الآخرة، وتتحولُ الأعراضُ إلى الجواهر. فدل على أن الإيمان لعله منفصلٌ عن الأعمال. وإليه يُشير قوله صلى الله عليه وسلّم «مُلئت إيمانًا وحكمة» فما صُبّ في صدره كان هو الإيمان، وهو المصبوبُ حقيقة، وإنما الأعمال ثمراته، والمقصود منها الإتيانُ بها، والحكمةُ غير العمل، وسيجىء تحقيقها.
نعم، رأيت صورة الإسلام والإيمان في رواية مرسل عن قتادة: أن الإيمان يجيءُ يوم القيامة ويقول: أنت المؤمن، وأنا الإيمان، فاغفر لمن كسبني، ويجيءُ الإسلام ويقول: أنت السلام وأنا الإسلام ... إلخ. ولكنه لا يدرى أنه صورةُ الإيمان وحده أو المركب من الأعمال وههنا نَظَرٌ يفيدنا وهو: أن مدَار دخولُ الجنة على الإيمان عند الكل، وكذا الخلودُ في النار على الكفر. وإنما الأعمالُ للدخولِ أولًا والتجنُّبِ عن النار. فعُلم أن الإيمانَ غير الأعمال، وأنها خارجة عنه.
والقول الفصل ما اختاره الشاه ولي الله رحمه الله تعالى: أن للإيمان إطلاقين: الأول: الإيمان الذي هو مَدَارُ الأحكام في الدنيا، ولا ريب أنه عبارة عن الاعتقاد فقط. والثاني: ما هو مدارُ للأحكام في الآخرة، وهي النجاةُ السرمدية، والفوزُ بالجنان بدون عذاب. ولا ريب أنه عبارة عن مجموع الأعمال والأخلاق، والله تعالى أعلم بالصواب.
وهذا الذي عناه الغزالي رحمه الله تعالى في «الإحياء»: أن الإيمانَ المبحوثُ عنه في علم الكلام لا يزيد ولا ينقص. ولذا اتفقوا على تسليم إسلام المصدِّق، وإن كان فاسقًا. وكذا اتفقوا على أنه ليس بمرتد ولا كافر. وأما الإيمانَ المبحوثُ عنه في الأحاديث، فإنه يزيد وينقص البتة.
وبالجملة من جَعَله مركبًا كالكلِّي المشكِك، ومن جعله بسيطًا جعله كالمتواطىء، لا تفاوت في صِدْقِهِ على أفراده. فظهر أن النزاعَ ليس لفظيًا، فإنه بعيدٌ عن أئمة الدين، بل