للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تجتمع ملائكةُ الليل وملائكة النَّهارِ في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعَدُ ملائكةُ الليل، وتثبتُ ملائكة النَّهار، ويجتمعونَ في صلاةِ العصر، فتصعَدُ ملائكةُ النَّهارِ، وتثبتُ ملائكةُ الليل، فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فهذه الرِّواية تَنْفي كثيرًا من الاحتمالاتِ، فهي معتمدةٌ، ويحمل ما نَقَصَ منها على تَقصيرِ بعض الرواة. انتهى مع تغيير.

فإنْ قلتَ: إنَّه ينبغي التعاقب في المغرب مكان العصر، فإِنَّ الطَّرَف الآخر من النَّهارِ، وهو المغرب. قلتُ: وهذه اعتباراتٌ، فعدُّ المغرب ههنا من الليل، والعصر من الطرف الآخر، باعتبارِ أَنَّ النَّهار الشرعي يبتدأُ من طلوع الفجرِ، لا من طلوع الشمس، وينتهي بالعصر لا بالغروبِ، على خلافِ النَّهارِ العُرفي، والصَّلاةُ بعدها مكروهةٌ، فينسد الدفتر فينبغي أَنْ تعتبَر العصرُ آخرًا بهذا الاعتبار أيضًا.

قوله: (تركناهم وهم يصلون (١)) وهل الملائكة يقتدون في الفجر أو لا؟ فلي فيه تردد ففي «الموطأ» لمالك رحمه الله تعالى عن سعيد بن المسيب أنَّه كان يقول: «مَنْ صلَّى بأرضٍ فَلاةٍ صلَّى عن يمينِه مَلَكٌ وعن شمالهِ ملكٌ، فإِنْ أَذَّنَ وأَقَامَ الصَّلاة صلَّى وراءه مِنَ الملائكةِ أمثال الجبال انتهى. فيمكنُ أَنْ يُقال إِنَّ اقتداءهم إذا ثَبَتَ في صلاةٍ ثَبَتَ في جميع الصَّلوات إِلا أَنَّ قولَه تعالى: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: ٧٨] ليس بصريح في الاقتداء، لأن الشهودَ يمكن أَنْ يكون كما مَرَّ في قولها: «أليست تشهد عرفة» وقوله: «يشهدن دعوة المسلمين». ولذا بَحَثْتُ هناك أَنَّ الشهود يُطْلَق على غير الاقتداء أيضًا، وكذا قوله في الجمعة: «إذا قَعَدَ الإِمامُ على المنبر طووا الصحف وجلسوا يستمعون الذكر». لأنَّه ليس فيه ذِكْر اقتدائهم، فإِنْ كان إطلاقُ الشهودِ على مطلق الحضُور فقولهم: تركناهم وهم يصلون، ظاهر. وإِنْ كان على الاقتداء فلا يَصْدق قولهم إلا باعتبارِ الجنس يعني تركنَاهُم أي الذين ما كنَّا مقتدين بهم دون الذين اقتدينا بهم أو يُحْمَل على المَسْبُوقِ وغيرهم.

قلتُ: ولي ههنا إشكالٌ آخر في عبارة البخاري وهو أَنَّه لِمَ خَصَّصَ الحديث المذكور بترجمةِ فَضْل العصر مَعَ اشتمالِهِ على فَضْل الفجر أيضًا، ثُمَّ إذا بَوَّبَ على فَضْل الفجر لَمْ يُخْرجه هناك، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فلعلَّه حَمَلَهُ على فَضْل العصر فقط، لأَنَّ حُضُورَهم في الفجر يُمْكِنُ أَنْ يكون مَحْمُولا على كونِها طرفًا من النَّهار بخلاف العصرِ، فإِنَّ الحضور فيها لِفَضْلِها في نَفْسِها لا لكونها طرفًا من النَّهار، فإِنَّ طرفه في الحس هو المغرب، فلو حضروا من أجل كونِها طرفًا لحضروا في المغرب دون العصر (٢).


(١) قُلتُ: وفي المقام أَبحاثٌ شريفة، ولطائف غريبة، ذكرها العيني فمن شاء فليرجع إليه.
(٢) ولا يَرِدُ عليه أنه قرر العصر فيما مر طرفًا، لأنهما نظران ومن ليس له نظر ليس عنده خبر ثم آخر ما سمعته في جوابه عنه أَنَّه بَوَّبَ عليه بفَضْلِ العصر دفعًا لما عَرَا لبعض العلماء مِنْ أَنَّ التعاقبَ لعلَّهُ يَخْتَص بالفجر، كما قال تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فأشارَ الإِمام إلى دَفْعِ هذا التوهم، وبَوَّبَ عليه بفَضْل العصر، فالتعاقُب في الفجر ثابتٌ بالنَّص، وفي العصر بالحديث، ولذا لم يخرجه في باب الفجر، لأنَّ فضلها والتعاقب فيها كان ثابتًا بالنَّص، فاكتفى بقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}.

<<  <  ج: ص:  >  >>