للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المركب. فإن عبارتَهم هذه تدلُ على أن الأعمال دخيلةٌ في ازدياد الإيمان ونقصانه، وسبب له، لا أنها داخلة وإن لها سرايةً وتأثيرًا في نماء التصديق والإيمان، لا أنها أجزاء. فلم يكن الإخلال بالعمل عندهم كقطع الغصن من الشجرة، بل كعدم سقيها بالماء، فلا بد أن تيبس. وتبيَّنَ منه أن البخاري اختصر في نقل قولهم اختصارًا مخلًا.

والحاصلُ: أن الأعمال على الشرح الأول كانت كالأصابع لليد، بخلاف هذا الشرح، فإنها أسباب. وإن الاختلاف على الأول كان بحَسَب الكمية، والآن جاء البحث في الكيفية فقولهم: الإيمان قول وعمل يحتمل شروحًا، كما مر، وقولهم هذا انحصر في السببية، وليس له شرح غيره. وحينئذٍ صارت تلك أيضًا مستقلة. ولم تَصِر من فروع الأولى. فإن الإيمان مركبًا كان أو بسيطًا يصلحُ محلًا لاختلاف الزيادة والنقصان بهذا المعنى. ثم الزيادة والنقصان بهذا المعنى لا ينكره الإمام أيضًا، فإن الانفساخ والانشراح زائدٌ وناقصٌ قطعًا، وهو المبحوثُ عنه في القرآن. وعليه يحمل ما تلا المصنف من الآيات.

وحاصل الخلاف على هذا التقدير: أن الإمام الأعظم رحمه الله تعرَّض إلى أمرٍ لم يتعرض إليه السلف، فإنه تكلم في مرتبة محفوظة، وهي التي يدور عليها أمر النجاة، وليس بعدها إلا الكفر. فالتصديق وإن كان زائدًا، أو ناقصًا، باعتبار مراتب الكمال، والانفساخ، والانشراح، إلا أن الإمام الهُمام أفرز بالبحثِ حصةً منه، وهو التصديق بمعنى انتفاء الشك، ولا تفاوت بين الانتفاءِ، والانتفاءَ. وإنما التفاوت في الانشراح والاسْتِيلاء.

قال الغزالي رحمه الله: إن الإيمان قد يطلق على اليقين، بمعنى انتفاء النقيض، ولا تفاوت فيه، فإن الانتفاء رأسًا لا تقام فيه المراتب، وقد يُطلق على استيلاء اليقين على القلب وجعلِهِ الجوارحَ تابعًا له وهو الأكثر، وهذا هو الذي فيه التفاوت، فوقع الالتباس بين المعنيين، فقيل ما قيل، فإما أن نقول: كما قال الغزالي، أي بتعدد الإطلاق في الإيمان. أو نقول: إن الإمام بحث في جُزء من الإيمان، لأن نَظَرَ الفقهاء يتعلق بالخلود والنجاة، أوليًا، كان أو مآليًا، بخلاف أنظار المحدثين، فإنها تقتصرُ على النجاة الكاملة الأولية، ولا يمكن إلا بالأعمال الصالحة. فالفقيه يبحثُ عن مراتبِ التصديق عما هو مدارٌ للنجاة، ولو مآلًا، ومن الكفر عما يوجب الخلود. وهذا كالشهادة، فإن الفقهاء إنما يبحثون عنها باعتبار أحكامهم في الدنيا، والذين تجرى عليهم تلك الأحكام قليلون، بخلاف ما في الحديث، فإن إطلاقَ الشهادة فيه أعمُ وأعم.

ومثله وقع في كثير من المواضع، فالقرآن والحديث إنما تعرَّض إلى انفساحِ التصديق. والانفساحُ أيضًا تصديق في نظر، لأنه تابعٌ له ناشيء عنه، ولذا أطلقَ عليه البخاريُّ الإيمانَ، والإمام الهُمَام لم يتعرض إليه، بل تعرض إلى مرتبة مخصوصة، كما يدل عليه عبارة الطحاوي في «عقيدته»، وهي أثبتُ شيءٍ في هذا الباب. قال: الإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل في الخشية، والتَّقى ومخالفة الهوى، وملازمة التقوى ... إلخ فجعل للإيمان أصلًا، وجعل الناسَ كلهم فيه سواء، وهو الذي لو انحط عنه الإيمان لجاء الكفرُ مكانَهُ، وأبقى

<<  <  ج: ص:  >  >>