للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٥٩٥ - قوله: (إنَّ الله قبضَ أرواحكم) وقبضُ الروحِ عند العامة: أَنْ يَذْهب الله بها، وحقيقته ما نبَّه عليه السُّهَيْلِي، وحاصله: أَنَّه قريبٌ مِنَ الغَطِّ والضَّغْطِ كَضَمِّ الأصابع على شيءٍ، وجعله صغيرًا بعد ما كان كبيرًا، مثلا: كأن عندك قُطْن مَنْفُوش فقبضته وضممت عليه أصابعك، فجعلته صغيرًا في يدك بهذا القبض بعدما كان منتفخًا في الخارج، وقبض الله سبحانه الأرواح عبارة عن تعطيلها عن بعض الأفعال، بعدما كانت ساريةً في الجسم تحركها، فإذا قُبِضَت فقد تَعَطَّلَت عن بعض أفعالِها كما تَرى في النوم. وترجمته في الهندية - بهينجنا - فالتوفي والإِرسال في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} ... الخ، عبارة عن تعطيلِها عن بَعضِ الأفعال ثم ردها إليها وإذا أراد الله أَنْ يتوفاها توفى الميت، فَيَقْبُضُ الأرواح قباضًا لا إرسالَ بعدها، فتتعطَّل عمَّا كانت تُشغَل فيه بالكلية، وهو بإِخراجِها عن أجسادها، لأن التَّعطُّلَ بالكلية لا يكون إلا بذلك، فإِنها ما دامت في الأجسادِ لا تزال تْشغَل ببعض تدبيرها، فإِذا نُزعت عنها وأُخرجت فقد تعطَّلت عن تدبيرها مطلقًا، ولم يَبْقَ لها معها تعلُّق التدبير أصلا. فهذا أيضًا نوعٌ من القبض، وهو القبض التام.

وحينئذٍ انكشف معنى قوله صلى الله عليه وسلّم عند أبي داود: «ما من أحدٍ يُسلِّم عليَّ، إلا ردَّ اللَّهُ عليَّ رُوحي، فأُسَلِّمُ عليه» - بالمعنى - أي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مُعَطَّلا عن ذلك الجانب، مشغولا بجناب القُدُس، فإِذا سُلِّمَ عليه يَرُدُّ الله عليه روحه ويُشْغِلُه بذلك الجانب، حتى يَرُّدَّ عليه السلام، وليس معناه الإِحياء والإِماتة، وهو ما أرادَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في عذر بلال عن نومه: «إن الله قَبَضَ أرواحَكم حين شاء، وردَّها حين شاء». ومعلومٌ أن بلالا لم يَتَوَفَّ كالميت، ولم تَخْرُج رُوحُه من جسده،


= في فوائِدِه فراجعها من قوله تعالى: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: ١١٤] ومن قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦] ومن قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: ٣٣] ومن قوله تعالى: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: ١٣] فإنَّه أشار إلى أَنَّه يُرَاعى بحضرة الرب ما يجري على ألسُن الأنبياء عليهم السلام.
إذا سمعت هذا فاعلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عرس بعد ما لحقهم التعب وسألوه التعريس فقالوا: لو عَرَّست بنا يا رسول الله، ثُمَّ جرى على لسانِه وخَطَرَ ببالِهِ ما كان واقعًا تكوينًا. فقال: إني أَخَافُ أن تناموا عن الصَّلاة على نحو ما جَرَى على لسانِ يعقوب عليه السَّلَام إنِّي أخاف أن يأكله الذئب فوقع كما خطر ثَم إِنَّ التكوين أَمر غير التشريع، ولم نُكَلَّف بما في التكوين، فإذا أرَدْنَا أن نعرس فليس علينا إلّا أَنْ نوكِّلَ رجلًا أَنْ يوقظنا، فلو نامَ الرجلُ ونمنَا فهو تكوين. وما قدَّره الله تعالى فهو آتيه لا محالة. فالتشريعُ لا يسد باب التكوين، ولذا قال يعقوب عليه السلام بعد ما أَوصَاهم ألا يدخلوا من باب واحد، ولا أغني عنكم من الله شيئًا، فكان كما جَرَى على لسانه حتى جاءه التقديرُ من باب آخر، ولم يمنعه دُخولُهم من أبواب متفرقة، نبه عليه الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى أيضًا، ثُمَّ قَد يَغْلِب عليهم التكوين من جهة الله سبحانه، ومن هذا الباب حكايةُ موسى عليه السَّلام خَلفَ الحجر عُريانًا، وإلقاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - إزاره على مَنكِبهِ ولُقِّي النَّصبِ لموسى عليه السلام من السفر، وإليه يشير قوله: "إنما أنسى لأسن" أي يُلقى عليَّ النسيان تكوينًا ليسن ما ينبغي في مثل هذه، وأمكَنَ أن يكون نومه أيضًا من هذا الباب والله تعالى أعلم، وهو يهدي إلى الصواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>