أيضًا. وفي عامة الكُتُب: إن الصلاةَ قبل المغرب مكروهةٌ والأوجه ما اختاره ابن الهُمَام، وإليه ذَهَبَ مالكٌ رحمه الله تعالى. وقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: يُصَلِّي ويتجوَّز فيهما، وعن أحمد رحمه الله تعالى: أنه صلاهما مرةً، ثم لم يستمر عليهما، كما يُعْلَمُ من «مسنده». وفي العيني: أنه لم يصلِّها إلا مرةً حين بَلَغَه الحديث، وهكذا عُرِفَ من عادات المحدِّثين: أنهم كانوا يعملون بالحديث مرةً حين يَبْلُغُهم وإن لم يَذْهَبُوا إليه ولم يختاروه، وإنما يَبْتَغُون بهذا الطريق سبيل الخروج عن عُهْدَتِهِ. ونَقَلَه الحافظ في «الفتح»، وفيه سهوٌ، فكَتَبَ: حتى بَلَغَه الحديث، مكان «حين» فانقلب منه المراد. والصواب كما في العَيْنِي، كَمَا يَتَّضِحُ من «مسند أحمد» رحمهم الله تعالى.
والحديثُ حُجَّةٌ للشافعية، وأصرح منه ما عند البخاري في باب الصلاة قبل الغروب، ولفظه:«صَلُّوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناسُ سنةً». اهـ. لأن فيه صيغةَ الأمر، وأدناها أن تُحْمَل على الاستحباب، ولأن فيه تصريحًا بصلاة المغرب بخلاف حديث الباب، فإنه إن صَدَقَ عليها، صَدَقَ بعمومه. وقد عَلِمْتَ أن التمسُّك بالعموم دائمًا عندنا ليس بذاك. وأجاب عنه الحنفية رحمهم الله تعالى: أن المرادَ من الأذانين الأذانان في الوقتين للصلاتين، فاستقام الحديث على مذهبنا أيضًا، وليس بجيدٍ عندي، لأن المراد منه هو الأذان والإِقامة تغليبًا. والحديثُ على طورهم يَصِيْرُ قليل الجدوى، فإنه أمرٌ بديهي.
والصواب في الجواب ما اختاره ابن الهُمَام من التزام الإباحة، وعليه تُحْمَلُ صيغة الأمر، لأنها وَرَدَت في صلاةٍ تَضَافَرَت الروايات بتعجيلها - أعني المغربَ - وحينئذٍ يَتَبَادَرُ الذهنُ أن لا يصلِّي قبلها بصلاة، فإذن لا تكون إلا لبيان الإباحة، ورفع إبهام الحظر، لا سِيَّما إذا كان فيه لفظ:«لمن شاء»، و «كراهية أن يتخذها الناسُ سنةً». والفرق في الأحاديث بالاستحباب والسنية غير نافع.
وعند أبي داود في باب الصلاة قبل المَغْرِب، عن أنس بن مالكٍ قال:«صلَّيت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: قلتُ لأنس: أرآكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: رآنا، فلم يأمرنا، ولم ينهانا». وهذا هو معنى الإباحة. وما يَحْكُمُ به الخاطر الفاتر أن الحديثَ على وجهه، هو الحديثُ العامُّ، وأراد الراوي أن يُجْرِيَ عمومه على المغرب، لأن المسألةَ عنده هكذا كانت، فأخْرَجَ المغرب من الخمس، وأدْخَلَها تحت حكم الحديث العامِّ، وركَّب منه عبارةً كما رأيت. وهذا بالحقيقة رواية المعنى، لا الرواية بالمعنى. وحاصلهُ: أن الروايةَ بالمعنى هي التي يَقْصُد بها الراوي سَرْدَ الرواية بألفاظها، فلم تَحْضُرْهُ الألفاظ، فرواها على المعنى، أي مراعيًا للألفاظ.
وأمَّا رواية المعنى: فهي أن لا يَقْصُدُ سردَ الألفاظ من أول الأمر، بل يَقْصُدَ إعطاء المراد الجملي، كما يَقْصُد في المجالس العامة كالوعظ وغير ذلك، فيروي المعنى فقط إلقاءً للمراد بدون تعرُّض إلى الألفاظ. وإنما حَمَلَني على ذلك حكم الوجدان، ولأن الحديث في عامة