للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

إلى المغرب نفيًا وإثباتًا (١)، والثاني: الأمر بها جزئيًا، والثالث: استثناؤها عن الخمس. والذي يَدُور بالبال - وإن لم يكن له بال - أن الحديثَ المرفوعَ هو الحديثُ العامُّ، ثم من كان مذهبُهُ الصلاة قبل المغرب، رواها على اللفظ الثاني على طريق رواية المعنى وبيانًا للمسألة، لا على شاكلة سَرْد الرواية. ومن استثناها عن الخمس نظر إلى الخارجِ، ولمَّا لم يَجِدْ فيه أحدًا يَعْمَلُ بهما، أَخرجهما عن الأمر بالصلاة لا محالة، لا أن الاستثناء مرفوعٌ عنده، أَلا تَرَى أن ابن عمر رضي الله عنه لمَّا سُئِلَ عنهما لم يأتِ بصريح النهيِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإنما نفاهما بناءً على مشاهدته وفُقْدَان العمل، هكذا فليفهم حال الاستثناء. ثم لم يَذْكُر راوٍ من رواة هذه الرواية أن واحدًا منهم كان يعمل بهما. وهذا يحقِّق أن من صلَّى بهما، فقد عَمِلَ بألفاظ الحديث، ومن تَرَكَهُمَا، فقد نَظَرَ إلى المشاهدة (٢)

وبالجملة إن مذهب الإمام هو المذهبُ المنصورُ، وإليه ذهب الجمهور، كما صرَّح به النووي. ثم إنه مع التصريح بعمل الخلفاء الأربعة وغيرهم على الترك، أراد أن يَرُدَّ على أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فلينظر هل يُنَاسب هذا بعد ذلك؟ وإن تعدلوا هو أَقْربُ للتقوى. والله المستعان. وما تحصَّل عندي: أنهما قد عُمِلَ بهما في زمنٍ، ثم انتهى العملُ بالترك، كما مرَّ عن ابن عمر رضي الله عنه. وعند النسائي في باب الرخصة في الصلاة قبل المغرب: «أنَّ أبا تميم الجَيْشَانِيَّ قام لِيَرْكَعَ ركعتين قبل المغرب، فقلتُ لِعُقْبَةَ بن عامرٍ: انظر إلى هذا، أيَّ صلاةٍ يُصَلِّي؟ فالتفتَ إليه فرآه، فقال: هذه صلاة كنا نُصَلِّيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. اهـ. فَثَبَتَ منه الجزآن، أي أنها كانت في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم انقطع بهما العمل حتى أفضى إلى الإنكار عليهما. أَلا ترى إلى قوله: «أيَّ صلاةٍ يُصَلِّي؟» كيف يَتَسَاءلُ عنها كأنه لا يَعْرِفُ أصلها.

بقي عَمَلُ أبي تميم، فتلك أذواق للناس: فمنهم من لا يُحِبُّ أن يَتْرِكَ ما عُمِلَ به في عهده صلى الله عليه وسلّم مرةً، ويُوَاظِبُ عليه، ويراه مُؤَكَّدًا لنفسه. ومنهم من يُرَاعِي السُّنَّةَ الأخيرة، فالأخيرةُ وهي ما استقرَّ (٣) عليها عملُه صلى الله عليه وسلّم وعَمِلَ بها أصحابُهُ صلى الله عليه وسلّم بعده، وقد عُرِفَ من أمر أصحابه


(١) قلتُ: وكثيرًا ما وَقَعَ مثله في أحاديث، فمن أمثلته ما رُوي عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه: "إذا أُقِيَمتِ الصلاةُ، فلا صلاةَ إلَّا المكتوبةَ". فالحديثُ المعروفُ هو هذا، ثم جاء بعضُ الرواة، فزاد فيه: "إلَّا ركعتي الفجر"، وجاء بعضٌ آخر، فروى: "ولا ركعتي الفجر"، فأورث على الناس تخليطًا. والأصل أن مذهبهما اختلط مع المعروف فأوحش طول، وسيجيءُ تفصيله.
(٢) قلتُ: وفي "العرف الشذي": أن البزار وابن شاهين ذهبا إلى نسخهما لورود الاستثناء، فدلَّ على صحته عندهما، كذا في كتاب "الناسخ والمنسوخ"، ثم اعلم أن ابن شاهين مُعَاصِرُ الدارقطني.
(٣) يقول العبدُ الضعيفُ: وكان شيخُنَا أقل ما يطلق لفظ النسخ على شيء، بل يقول: انتهى به العمل. ولَعمرِي إنه تعبيرٌ جيدٌ لو تخيَّره الناسُ أسوةً، فإن العملَ قد ينتهي مع بقاء المشروعية، بخلاف النسخ فإن المُتَبَادَرَ منه رفعُهَا، فادِّعاء الانتهاء أسهلُ من ادِّعَاء الرفع. وأمَّا من لا يَحْتَاطُ في مثل هذه الأبواب، فيدَّعي في كل موضع لم يُسْنَحْ له التوفيق أنه منسوخٌ ولا يُبَالِي، ثم يَزْعَمُهُ علمًا. نعم، وإن من العلم لجهلًا، ثم أخرجه النَّسائي، في باب الصلاة بين الأذان والإقامة، وفيه قال: "كان المؤذِّنُ إذا أذَّن، قام ناسٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَيَبْتَدِرُون السواري يُصَلُّون، حتى يَخْرُجَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك يُصَلُّون قبل المغرب" اهـ. =

<<  <  ج: ص:  >  >>