للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أمَّا أنا فأعمل بمذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أفتى به الناس، غير أني لا أُنَازِعُ من صلاهما في المسجد، وأقول: لعلَّه أَخَذَ بقول محمد رحمه الله تعالى والطحاويِّ رحمه الله تعالى. هذا هو تحريرٌ لمذهب الإمام الأَعْظَم عندي. وأمَّا مذهب الشافعيِّ رحمه الله تعالى، فقد عَلِمْتَه. وتمسُّكه من حديث الباب، فإنه يَدُلُّ على النهيِّ عن الصلاة بعد الإقامة مُطْلقًا، سواء كان في المسجد أو خارجه.

فكأن مَنَاط النهيِ عندهم: الدخول في سنة الفجر بعد الإقامة للفرض، ولمَّا لم يكن فيه فرقٌ بين داخل المسجد وخارجه عَمَّ النهيُ أيضًا بعموم المناط، ولم تَجُزْ ركعتا الفجر في الخارج والداخل مطلقًا. فأجاب عنه الطحاويُّ: أمَّا أولا: فبأن الحديثَ موقوفٌ وليس بمرفوع، كما يُعْلَمُ من صنيع البخاري في «صحيحه»، حيث لم يُعَبِّرْهُ بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإن مال في «جزء رفع اليدين» إلى رفعه، ولكن العِبْرَة بما في «الصحيح» لأن دَأْبه في الخارج أوسع، وفي «الصحيح» أحكم. فإنه قد يَلْتَزِمُ في الخارج بعض ما يكون بديهي البُّطْلان، كدعواه في عدم ثبوت ترك الرفع عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ومنه قوله بعدم أدراك الركعة بإدراك الركوع عندهم، وكل ذلك مما لا يُقْبَلُ، كما فصَّلْته في «نيل الفرقدين»، و «فصل الخطاب».

وكذا الشافعيُّ رحمه الله تعالى عَبَّره في «الأم» بقول أبي هريرة، مع اختياره في الجديد مسألة الحديث. وكذا ترجمة ابن أبي شَيْبَة على الحديث المذكور تَدُلُّ على أنه موقوفٌ عنده، وهذا القدر يُوجِبُ التوقُّف في رفعه إن لم يُجْزَم به. وظنِّي أنه جاء بالنحوين: موقوفًا ومرفوعًا، وأجد في الصحابة كثيرًا: أنهم كانوا يستعملون عنوان الحديث المرفوع فيما بينهم على شاكلة الأمثلة السائرة، والمقدمات الدائرة، والمسائل المسلَّمة، وحينئذٍ لا يذكرون (١) له إسنادًا ولا يهتمُّون به لعدم احتياجه إليه واستغنائه عنه عندهم.

وقد وقع مثله في حديث: «من كان له إمام ..... » الخ، وحديث النهي عن البُتَيْرَاء فزيدُ بن ثابتٍ أَفْتَى في سجدة التلاوة عند مسلم، وابن عمر رضي الله عنه في «الموطأ» بعين هذه الألفاظ: «من كان له إمام .... » الخ فتبيَّن لي: أن هذا الحديث قد اشتهر فيما بينهم حتى استعملوه كالمسلَّمات، وإن ذَكَر له ابن الهُمَام إسنادًا صحيحًا على شرط الشيخين أيضًا، وراجع


(١) قلت: ويَقْرُب منه ما ذكره السيوطي في "التدريب": قال بعضهم: يُحْكَمُ للحديث بالصحة إذا تلقَّاه الناسُ بالقَبُول، وإن لم يكن إسناده صحيحًا - قلت: ومن هذا الباب حكم الترمذي على أحاديث مُنْقَطِعة بالتحسين، كحديث عُبَيد الله، عن عبد الله في باب: الاستنجاء بالحجرين، فإِنه مُنْقَطِع، وكذلك حديث فاطمة بنت الحسين، عن جدتها في باب: ما يقول عند دخول المسجد، فإِنه أيضًا مُنْقَطِع، مع أنه حسَّنهما، فاحفظه.
ثم إنك تجد في موضع من تقريرنا هذا أن البحثَ عن الأسانيد لم يكن بين السلف، وإنما احتاج إليه الخَلَف، وذلك كما ذَكَرَه الترمذيُّ في "العلل" عن ابن سيرين قال: كانوا في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة، سألوا عن الإسناد ... إلخ. وهذا أصلٌ عظيمٌ يَظهَرُ منه السر في فقدان الأسانيد لبعض الأحاديث الصحيحة، فاحفظه واغتنمه. ثم هذا إنما ينفع لمن رُزِقَ فَهْمًا صحيحًا، وقلبًا سليمًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>