يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، فَتُوُفِّىَ مِنْ يَوْمِهِ. أطرافه ٦٨١، ٧٥٤، ١٢٠٥، ٤٤٤٨ - تحفة ١٤٩٦
اختار مذهب الحنفية، وقدَّم الأعلم على الأقرأ، وهو روايةٌ عن الشافعيِّ رحمه الله تعالى أيضًا. وفي المشهور عنه: تقديم الأقرأ، وهو روايةٌ عن أبي يوسف رحمه الله تعالى منا. واستدلَّ عليه المصنِّف رحمه الله تعالى بإمامة أبي بكر رضي الله عنه، فإِنه كان أعلمهم. ولو كان المقدَّم هو الأقرأُ، لكان أُبَيُّ أَوْلى بها، فإِنه كان أقرؤهم بنصِّ الحديث. ومن ههنا تبيَّن أن تقديمَه عند البخاريِّ كان من جهة علمه، لا لكونه إمامًا عامةً وإلا لا يَصِحُّ منه الاستدلال. ثم إن حديث تقديم الأقرأ عند مسلم، وتركه المصنِّف رحمه الله تعالى. وكذا التفريع عليه، وهو متمسَّك الشافعية.
قلتُ: الحديث وَرَدَ على عُرْفهم، لا على العُرْف الحادث. والأقرأُ عندهم كان أحفظهم قرآنًا، أي من كان القرآن عنده أَزْيَد، لأنهم كانوا أهل اللسان غير مُفْتَقِرين إلى تصحيح الحروف، ولمَّا فَشَا الإسلام إلى الأطراف، وقرأه العجمُ أيضًا، افْتَقَرُوا إلى تصحيح الحروف. فالمراد من الأقرأ في الفِقْه: هو المجوِّد دون الأحفظ وحينئذٍ خَرَجَ الحديث عن مَوْرِد النزاع، فإِن الخلاف في الفِقْه في تقديم المجوِّد أو الأعلم، لا من كان أكثر حِفْظًا للقرآن.
ثم أَدَّعى صاحب الهداية رحمه الله تعالى: أن أقرأهم كان أعلمهم، وأَصَابَ، فإِن الصحابةَ رضي الله عنهم لم يكونوا يَأْخُذُون القرآن بدون الإمعان في معانيه ومبانيه، وإنما كانوا يَحْفَظُونه مع معانيه، فكان أقرأهم أعلمهم. ولا يَلْزَمُ من ذلك أن لا يكون بينهم فضلٌ في العلم، فإِن العلمَ أيضًا مُتَفاوت، كابن عباس رضي الله عنه، فإن سائرَ الصحابة رضي الله عنهم وإن أخذوا القرآن وتعلَّموه أيضًا، إلا أنهم لم يكونوا مثل ابن عباس رضي الله عنه. ولا رَيْبَ أن الحديثَ، وإن قدَّم الأقرأ في اللفظ، إلا أنه لم يَعْتَبِر جهة الترجيح إلا العلم، ولذا قال:«فإِن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسُّنة»، فَعُلِمَ: أن العلم هو جهة الترجيح عنده، دون الزيادة في حِفْظ القرآن.
وحينئذٍ حاصلُ الحديث: تقديم الأقرأ الأعلم، فإِن كانوا في قراءة القرآن وعِلْمِه سواء، فالترجيحُ بينهما من جهة العلم لا غير. ويُمْكِنُ أن يكونَ القارىء العالم أيضًا مُتَفَاوِتًا في العلم، فإِن المراتبَ لا نهايةَ لها، وكذا العلم. ولعلَّك عَلِمْتَ منه: أن فقهاءنا وإن لم يَعْمَلُوا باللفظ، وهو تقديم الأقرأ إلا أنهم قد عَمِلوا بالغرض، وهو الذي ينبغي. حيث عَلِمُوا أن غرضَ الشارع تقديمُ الأعلم، وإنما قدَّم الأقرأ في اللفظ نظرًا إلى أقرأ زمانه، وهو كان أعلم أيضًا. ومن ههنا سَقَطَ ما أَوْرَدَ عليه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى.
نعم في صنيع الهداية قصور، وهو أنه صار مُسْتَدِلا بهذا الحديث، مع أنه ينبغي له أن يكون مُجِيبًا عنه. ولو أجاب عنه بما قال، ولم يَسْتَدِلَّ به لمذهبه، لَمَا وَرَدَ عليه ما أورده. ثم