للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ظَنُّوه مسألةً، لَعَمِلُوا به واحدًا بعد واحدٍ حتى يتسلسل به العمل. ثم لمَّا نُقِلَ عنه السؤال عليه، عُلِمَ عدم الرِّضا به. ولو كان عند مَرْضِيًّا، لَمَا سَأَلَ عنه. وكذلك كل موضع لا يَرْضَى به الشارع يَنْقُلُ فيه أولا سؤاله عليه، ثم قد يتعقَّب عليه إغماضًا عنه عنده كما مرَّ آنفًا فيمن صَلَّى بعد الإقامة وحين الصلاة، أو بعد الفراغ عنها، فأظهر الكراهية من قبله، وقال: «آلصبح أربعًا». أو نحوه، ثم لم يُعَاقِبْهُ.

وهكذا عند النَّسائي: «أن رجلا قام بعد التحريمة، وقال: الله أكبر كبيرًا ... إلخ من رأيه، فأثنى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فقال: لقد ابْتَدَرَهَا اثنا عشر ملَكَا». وكذلك في رجلٍ آخر عَطَسَ، ثم حَمِدَ الله بكلماتٍ سَنَحَت له إذ ذاك. فكلُّ ذلك ثناءٌ على النيات الحسنة، لا تقريرَا على سنيةِ هذه الأذكار.

إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن رَفْعَ أبي بكرٍ رضي الله عنه، وحمده لله جلَّ ذكره أيضًا من هذا القبيل، لا سِيَّما إذا جاء تحت الإنكار. فقد نَقَلَ الحافظُ رحمه الله تعالى عن «مسند أحمد»: «لِمَ رَفَعْتَ يَدَيْك؟» فجاء الرفع تحت السؤال أيضًا. فَعُلِمَ أن الرفعَ كان في غير موضعه، لِمَا قَدْ عَلِمْتَ أن سؤاله يكفي دليلا لعدم رضائه، ولا يجب التعاقبُ عليه لا سِيَّما عند الأعذار والأحوال الجزئية. ثم إن الأذكارَ محمودةٌ في الأحوال كلِّها، وعبادةٌ في الأزمان أجمعها، بخلاف الرفع، فإنه ليس عبادةً مقصودةً، فإذا وَرَدَ في غير محله، جاء السؤال.

فالرفعُ إن كان عبادةً، ففي موضعٍ مخصوصٍ، وهيئةٍ مخصوصةٍ. أمَّا إذا كان في غير محله، فهو قابلٌ للإنكار. وليس للرجل أن يَرْفَعَ متى شاء، وكم شاء؟ ولس مجردُ تَكثِيْرِهِ أمرٌ مطلوب، وإنما عُرِفَ عبادةً في موضعٍ مخصوصٍ فقط. فاعلمه، ولا تَرْفَعْ رأسك إلى كلِّ رفع اليدين، فإن بعضَه قد دَخَلَ تحت السؤال أيضًا، ولم يَرْضَ به الشارع.

قوله: (ما كان لابن أبي قُحَافَة). هذا ما قلتُ لك في الدروس المارَّة: إنه لا يَلِيْقُ برجلٍ من الأمة أن يَؤُمَّ نبيًا، ولا يَؤُمُّ المهدي (١) أيضًا عيسى عليه السلام إلا في صلاةٍ واحدةٍ، وهي أيضًا لكونها أُقِيْمَتْ له، وإنما نَاسَبَ أن يَقَعَ مثله مرةً أو مرتين، لِمَا عند أحمد رحمه الله تعالى في «مسنده»: «لَمْ يَمُتْ نبيٌّ حتى أَمَّهُ رجلٌ من أمته» - بالمعنى.

ثم إنه قد ثَبَتَ اقتداء النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في عِدَّة مواضع: الأول: عند قُفُوله من غزوة تَبُوك، وكان الإمامُ فيه: عبد الرحمن بن عَوْف، كما هو عند أبي داود، ومسلم في باب المسح على


(١) هكذا حقَّقه الشيخ عليّ المتقيّ البرهانفوري في رسالته في إثبات المهدي، وإنما اضْطُر إلى هذا التصنيف، لأن رجلًا ادَّعى المَهْدَوِيَّة في عصره، وأسَّس فرقةً سمَّاها المهدوية، فصنَّف على رغمهم رسالة تُنبىءُ عن المهدِي الصدق، ولكنه لم يزل أمره في شهرة ورفعة، حتى اضْطَرَّ الشيخُ إلى الهجرة، فناضله بعده تلميذه الشيخ محمد طاهر حتى اسْتُشْهِدَ، والشيخ علي المتقي: حنفي من علماء القرن العاشر، وهو شيخ الشيخ عبد الحق الدِّهلوي، والشيخ محمد طاهر أيضًا حنفي، كما هو مصرَّح في رسالته الخطية "برايدير"، ولم يتحقّق الأمر لمولانا عبد الحي رحمه الله تعالى، فقال: إنه شافعي، وهو خلاف التحقيق، كما عَلِمْتَ. هكذا أفاده الشيخ رحمه الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>