فإذن هما حديثان مستقلان في هذا الباب، لا أنهما حديثٌ واحدٌ اخْتُلِفَ في ألفاظه، فما يَرْوِيه أنسٌ، وعائشةُ وجابر رضي الله تعالى عنهم من حديث الجُحُوش سِيقَ لبيان: إذا صلَّى قائمًا، فصَلُّوا قِيَامًا، وإذا صلَّى قاعدًا، فَصَلُّوا قَعُودًا أجمعون، وما يرويه أبو موسى، وأبو هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه، فهو حديثٌ آخر سِيقَ لبيان الائتمام لا غير، وفيهما:«فإِذا قرأ فأَنْصِتُوا»، وقد مَشَى فيها على أكثر صفة الصلاة للمتقدي، فلم يكن لَيَذَرَ حكمَ القراءة، وقد مَضَى على صفة الصلاة نسقًا، بخلاف حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأبي موسى. ولذا لم يأتِ فيه الأمر بالإنصات، ولعلَّهما لم يُدْرِكَا واقعة السُّقُوط، فإِنها في السنة الخامسة كما مرَّ، وأبو هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه أَسْلَم بعده بكثير.
ثم اشْتَرَكَ الحديثان في بعض الأمور، فلمَّا رأوا أحاديث واقعة السُّقُوط خاليةً عن أمر الإنصات، سَرَى إلى الوهم أن حديثي أبي موسى وأبي هُرْيَرَة رضي الله تعالى عنهما في الائتمام أيضًا ينبغي أن يَكُونا خاليين عنه، وهذا كما قيل: إن الوَهْمَ خلافٌ. مع أنك قد عَلِمْتَ أنهما حديثان، فلا يجوز حَمْلُ أحدهما على الآخر، وليسا من باب السَّاكت والنَّاطق، ولا من باب الزيادة. ولعلَّه لم يَذْكُر قوله:«وإذا قرأ فأنْصِتُوا» في قصة السُّقُوط لعدم الاحتياج إليه إذ ذاك، بخلافه في حديثي أبي هُرَيْرَة وأبي موسى رضي الله تعالى عنهما، فإِنهما لمَّا كانا من باب أحكام الاقتداء، وَجَبَ التعرُّض إليه، لكونه دِعَامة في هذا الباب، وربَّما يَحْكُم الذهن بالاتحاد نظرًا إلى اشتراك بعض الألفاظ. وبعبارةٍ أخرى: إن حديثَ الائتمام يَرْوِيه خمسٌ من الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ أنس، وجابر وعائشة، وأبو هريرة، وأبو موسى رضي الله تعالى عنهم، مع الاشتراك والاختلاف في بعض الألفاظ، فظنَّه المحدِّثون حديثًا واحدًا. ولمَّا لم يَجِدُوا عند أكثرهم جملة:«إذا قرأ»، حَكَمُوا بكونه غير محفوظٍ، وقرَّرتُ أنهما حديثين اشتركا في بعض المادة.
(والدليلُ على ذلك). أمَّا أولا: فإن أبا هريرة، وأبا موسى رضي الله تعالى عنهما لم يُدْرِكَا قصة السُّقُوط، فحديثهما ليس حديثَ السُّقُوط الذي يرويه أنسٌ رضي الله تعالى عنه وغيره. وأمَّا ثانيًا: فلأن حديثهما لم يُسَقْ لإِصلاح مفسدةٍ، بل هو حديثٌ ابتدائي سِيقَ لتعليم أحكام الائتمام، كما استشعره أبو موسى رضي الله تعالى عنه. فعند مسلم في باب التشهُّد:«فقال أبو موسى رضي الله تعالى عنه: أَمَا تَعْلَمُون كيف تقولون في صلاتكم؛ إن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّم خَطَبَنا فبيَّن لنا سُنَّتنا، وعلَّمنا صلاتنا»، ثم ساق حديث الائتمام.
فدَلَّ على أن ما عند أبي موسى رضي الله تعالى عنه هو حديثٌ في سياق التعليم، بخلاف ما عند أنسٍ رضي الله تعالى عنه، وجابر رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها، فإنه وإن اشتمل على ذكر الائتمام، لكنه سِيقَ عندما قاموا خلفه حال قعوده، فعلَّمهم سنة الاقتداء. فليس حديثهم ابتدائيًا، ولس فيه ذكر الإنصات مع قراءة الإِمام، والذي سِيقَ لتعليم ذلك، ففيه ذلك ولا بدَّ، والله هو الموفِّق. وهذا مهمٌّ لا يهتدي إليه إلا من يَهْدِي الله، وقد ذكرته في رسالتي «فصل الخطاب». بقيت مسألةُ اقتداء القائم خلف القاعد، فسنعود إليها قُبَيْل كتاب التهجُّد إن شاء الله تعالى، وقد ذكرنا نَبْذَةً منها فيما مرَّ.
قوله:(فصَلَّيْنا وَرَاءَه قُعُودًا). وفي الحديث المارِّ: «أنهم صلُّوا خلفه قيامًا، ثم أمرهم