رضي الله تعالى عنه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «إن الشيطانَ لا يدخُلُ فَجَا دَخَلَ فيه عمر (١) رضي الله تعالى عنه»، أو كما قال. واستُشْكِل أنه إذا أباح غناءهن أولا، فكيف عدَّه من الأمور المُنْكَرة التي تَحْضُرُها الشياطين آخِرًا.
قلتُ: وليعلم أن المُغَنِّي يُسمَّى مَنْ يَنْشُد بتمطيطٍ، وتكسير وتهييج، وتشويق بما فيه تعريضٌ بالفواحش، أو تصريحٌ بها. وفي الحديث الآتي عند البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها:«وَلَيْسَتَا بِمُغْنِّيَتَيْنِ». قال القُرْطُبِي في «شرحه»: لَيْسَتَا مِمَّنْ يعرفُ الغِنَاء كما تعرِفْه المغنياتُ المعروفات بذلك. ولا أرى المُحَدِّثين يبيحون الغناءَ. أما المعازف فَنَقَل قومٌ الإِجماع على تحريمها. ونَقَل العيني رحمه الله تعالى في «شرح الكنز» عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في: باب ردّ الشهادة حُرْمَةُ التغني مطلقًا، ولي جَزْمٌ بأنه ليس نَفْيًا للأصل، بل بِحَسَب الأحوال. وأَبَاحَهُ ابنُ حَزْم، وإليه مال الغزالي في «الإِحْيَاء». ثم حُرِّر أن بعضَ المباحات تصِيْرُ صغيرةٍ بالإِصرار على نحو ما قالوا: إن الصغيرةَ تصيرُ بالإِصرار كبيرة.
قلتُ: وهو تحقيقٌ جيدٌ أَحْرى بالقَبول. وأيُّ بُعْدٍ في صيرورةِ المباح صغيرةً إذا كان بعضُ المباحات أَبغضَ عند الله تعالى، كما عند ابن ماجه:«أن أبغض المباحاتِ عند الله الطلاقُ»، فوَصَفَ الطلاقَ المباح بكونه مبغوضًا، وحينئذٍ لا بُعْد في بلوغه مرتبةَ الصغيرة بالإِصرار.
ومن هذا الباب ما عند أببي داود: «مَنْ سَرَّه أَنْ يَتَمَثَّل له الناسُ قيامًا فليتبوأ مقعدَهُ من
(١) قلتُ: وهكذا في قِصة لَعِب السودان، وتَزَفنِ الحبشية، ونَظَرِ عائشةَ رضي الله عنها إليهم، فإِن قلت: ما الفرقُ بين قصَّةِ عائشة رضي الله عنها حيثُ أُذِن لها أَن تَنْظُر إلى لعب الحبشية وبين قوله: "أَفَعَمْياوَانِ أَنْتُما" حينَ دَخَل ابنُ أمِّ مكتوم في بيت أم سَلَمة رضي الله عنها وأَمَرَها بالحِجاب؟ فقالت: "يا رسول اللهِ إِنه أعمى" قلتُ: أما الاعتذار بكون عائشةَ رضي الله عنها صغيرةً، أو كان ذلك قبل نزولِ الحجاب فقد ردَّهُ الحافظ رحمه الله تعالى فالوجْهُ على ما يخطر بالبالِ أن الطبائعَ السليمةَ تحكم بالفرق بين كونِ امرأة في البيت ووقوعِ نَظَرِها على الخارج، وبين كونِ رجل أَجنبي في البيت مع كونها فيه، فقِصَّةُ عائشةَ رضي الله عنها كانت فيما كانت هي في البيت، والحبشيةُ خارِجَة، وقِصَّةُ أم سَلَمة رضي الله عنها كانت فيما دخل ابنْ أم مكتوم في بيتها، ثم كان ينبغي لها أن تبتدر إلى الحجاب حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَها بذلك، ولكنها لما اعتذرت عنه شَدَّد لها في الكلام بعد المعارضة وإن كانت صورةً فإِنها فهمت أن الحجاب من الرجال حين أمكن النظر منهم إلى النساء، وبَين لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه في الصورتين سواء، ولذا قال: "أفعمياوان أنتما، ألستُما تُبْصِرانِه". ويُعلم من كلام النووي أنه فَرَّقَ بَيْن النظر إلى الرجال قَصْدًا وبين النظر إلى الرجال تَبَعًا، وإلى اللَّعب قَصدًا، ففي الصورة الثانية يمكن صَرْف النظر عنه إن وقع بلا قَصْد. قلت: وفَرْقُ أيضًا بين إباحةِ النَّظر إلى اللَّعِب من جهةِ حُسْن المعاشرة لحداثة السن، ففيها معنى صحيحٌ، وبين النظر إلى الأجنبي أو عدم المبالاة به بعد كِبَر السن، وبالجملة القصتان تفترقان من وجوه، مع الأمْن عن الفِتنة في الموضعين، والله تعالى أعلم، وقد مر عليه الطحاوي في "مُشْكِله" -ص (١١٦) ج (١) - فقال ما حاصله: إن حديثَ أُم سَلَمة كان بعدما ضُرِبَ الحِجاب كما هو مُصَرَّح في قصتها بخلاف قِصَّة عائشة رضي الله عنها، فإنه لا ذِكر فيه لمقدم نزول الحجاب في نِساء رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الناس وحجاب الناس عنهن، وان أمكن أن يكون بعد نزولِ نوع من الحجاب، فإنه لم ينْزِل إِلا تدريجًا حتى آل الأمرُ إلى حجابِ الأشخاص، وكذا يَحْتَمِل أن عائشة رضي الله عنها لم تَبْلغ حينئذٍ مَبْلَغ النساء فلم تلحقها العبادات.