للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أمِر ابنُ آدم بالسجود فَسَجَد فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجودِ فلم أَسجُد فلي النار». قال النووي: إنَّه مقولةُ إبليس.

قلتُ: وهو في سياقِ التسليم دون الترديد. وللشافعية أن يقولوا: إنَّ الوعيد معقولٌ على تَرْك المُسْتَحب إذا قَارَن تَركه تَرْك الواجباتِ أيضًا، ألا تَرَى أنه يُنْكَرُ على المعصيةِ مِنْ طَالِحٍ ما لا يُنْكَر على تلك المعصيةِ إذا كانت مِنْ صالحٍ. فتلك المعصيةُ وإنْ تُذْكر في السياق لكن تُرَاعى عند الوعيدِ أفعالُهُ الأُخَر أيضًا. وحينئذٍ يمكن أن يكونَ الوعيدُ على تَرْكِهم سجودَ التلاوة في الذِّكْر فقط، ويكونُ مَحَطُّه تَركَهُم السجودَ الصلوية أيضًا.

والحاصل: أن الوعيدَ وإن كان على تَرْك سُجودِ التلاوة، لكنه نظرًا إلى تركهم السجود الصلوية أيضًا. وقد مرَّ نَحْوُه في كتاب الإيمان: عند تحقيق كونِ الحدودِ كفاراتٍ أو زواجرَ، وكذا في بَحْثِ وجوب الجماعة.

١٠٦٧ - قوله: (قرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم النَّجْمَ بمكَّةَ فسجَد فيها وسجَد مَنْ مَعُه غيرَ شيخٍ) ... إلخ. وفي الروايات أنه سجدَ معهم المشركون أيضًا. قال المفسرون: وذلك لإجراء الشيطانِ تلك الكلماتِ على لسانهِ صلى الله عليه وسلّم تلك الغرانيق العُلَى وإنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى فزعموا أنه يَمْدَحُ طواغِتَهُمْ فسجدوا لها. ولما استصعب العلماءُ تَمَكُّنَ الشيطانِ مِنْ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بهذه المَثَابَةِ، قالوا: إنَّ الشيطَانَ أهونُ على اللَّهِ مِنْ أنْ يُسَلِّطَه على رسوله بشيءٍ وقد سَبَق منه الوَعْدُ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: ٤٢] وإنما لَبَّس هو عليهم فقرَأَها بلهجةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بحيث لم تَتَميَّز عندهم قراءتُهُ من قراءةِ النبي صلى الله عليه وسلّم وكلُّ ذلك عندي خلافُ الواقع، ويُوجِب رَفح الأمانِ عن الشَّرْع، فإنه إذا لم يَقْدِر على تَمَثُّلِهِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم في الرؤيا. فأَنْ لا يَقْدِر على إجراء كلمةٍ على لسانِه في اليقظة أَحْرى.

فأقول: أما أولا: فأيّ داعيةٍ إلى التزام التباسِ اللهجةِ باللهجةِ، ألا ترى أن الأغلاطَ قد تَقَعُ في المجامع بدونه أيضًا.

وأما ثانيًا: فيمكن أن يكون سجودُهم حين أَسْلموا كلُّهم في أوائل حالهم. فقد أخرج الحافظ رحمه الله تعالى عن الطبراني: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لما أَظْهَرَ الإسلامَ أَسْلَم أَهْلُ مكةَ، حتى إنه كان يقرأُ السجدةَ فيسجُدون، فلا يَقْدِر بعضُهم أن يسجدَ من الزِّحَام، حتى قَدِم رؤساءُ قريش: الوليدُ بنُ المغيرة، وأبو جَهْل وغَيْرُهُما، وكانوا بالطائف، فرجعوا وقالوا: تَدَعُون دينَ آبائِكُم» اهـ.

فهذا وإنْ نظر فيه الحافِظُ لكنه يدلُّ على أنهم أسلموا في أوَّل أَمْرِهم، ثُم ارتدُّوا بعد رجوعِ صناديد الكفار إليهم، وحينئذٍ لا بأسَ بِحَمْل سجودِهم إذ ذاك. فإنْ قلت فَلِمَ وَصَفَهم في الرواياتِ بالشِّرْك، كما في الروايات: «وَسَجَد معه المُشْرِكُون». قلتُ: لأنهم وإن كانوا مُسلمين عند السجودِ إلا أنَّهم لما صاروا مُرتدِّين - حين الحكاية - صحَّ وَصْفُهم به باعتبار الحالةِ الراهنة، وإنما العبرةُ للخَواتيم. وقد أخرجه الطحاوي رحمه الله تعالى أيضًا في باب: فَتْح مكةَ عُنوةً

<<  <  ج: ص:  >  >>