قيل: لم يا رسولَ الله؟ أليسوا أولادَ المشركين. قال: "أوليس خياركم أولاد المشركين"؟. ثم أَخرج عن الحسن عن الأسود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل نسمةٍ تُولَدُ على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها وينصِّرانها". قال أبو جعفر: فتأمَّلنا ما قيل في تأويل هذا الحديث فوجدنا عليَّ بن عبد العزيز قد أجاز لنا عن أبي عبيد القاسم بن سلَّام، قال: سألت محمدَ بن الحسن عن تَفسِيره يعني حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في أول هذا الباب - فقالَ: كان ذلك في أوَّلَ الإِسلام قبل أن تَنزل الفرائض. وقبل أن يُؤمر المسلمون بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنَّه يذهبُ إلى أنه لو كان يولَدُ على الفِطْرة، ثُم مات قبل أن يُهَوِّداه أَبواه وينصِّراه ما ورثاه، لأنَّه مسلمٌ وهما كافران. ولما جاز مع ذلك أن يسبي، فلما نزلت آيات الفرائضِ وجرت السنن بخلافِ ذلك، دل على أنَّه مولودٌ على دِينِهما. قال أبو عبيد: وأما عبدُ الله بن المبارك فبلغني أنه سُئل عن تأويله. فقال: تأويله الحديثُ الآخَر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن أطفال المشركينَ، فقال: "الله أَعلم بما كانوا عاملين". يذهبُ إلى أنهم يولدون إلى ما يصيرون إليه من إِسلام أو كفر فَمن كان في عِلم الله عز وجل أنه يصير مسلمًا فإِنَّه يُولد على الفِطرة. ومَن كان عِلْمُه فيه أنه يصير كافرًا يموت كافرًا. قال أبو عبيد: فأحدُ التفسيرين قريبٌ من الآخَر. قال أبو جعفر: فتأملنا ما ذكرناه عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى مما جنح إليه أبو عبيد، فوجدنا في حديث الأسود أنه كان في غزواتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي الجهاد. ثم لما اختلفوا في معنى هذا الحديث على قد ما ذكرنا، وقالوا في تأويله ما قد وصفنا بعد أَن جعلنا كله حديثًا واحدًا، وأثبتنا فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -، فما يزال عليها حتى يُعرِب عنه لِسَانه، اعتبرنا ما جاء في ذِكر الفِطرة فِي كتاب الله عز وجل، فوجدنا اللهَ عز وجل قد قال في كتابه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: ١]. أي خالق السموات والأرض. قال: وكذلك حدثنا ولاد النحوي عن المصادري، عن أبي عبيد وقال عز وجل: فيه {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: ٢٢] أي خلقني وقال عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠] أي ملة اللهِ التي خلق الناس عليها قال: وكذلك أيضًا: حدثنا ولاد النحوي عن المصادري، عن أبي عبيد في أشياء. من هذا المَعنى. وكانت الفِطْرَة فِطرَتَين: فطرة يرادُ بها الخِلقة التي لا تعبد معها التعبد المستحَق بِفِعله الثواب. والمستوجَبِ بِتَركِه العقابَ. فكان قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يُولد على الفِطْرة"، يريدُ الفِطرة المتعبد أهلها المثابون والمعاقبون. فكان أهلها الذين هم كذلك ما كانوا غير بالغين مما خُلِق للعبادة كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} [الذاريات: ٥٦]، وإن كانوا قبل بلوغهم مرفوعًا عنهم الثواب والعقاب، غير أنهم إذا عبرت عنهم ألسنتهم بشيء من إِيمان أو من كُفْر كانوا من أهله، وإِن كانوا غيرَ مثابين على محموده وغيرَ معاقبين على مذمومه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "فما تزال عليها حتى يُعرِبَ عنها لسانُها" ولذلك قَبِل - صلى الله عليه وسلم - إسلامَ مَنْ لم يبلغ وأَدخله في جملة المسلمين. وفي ذلك ما يُوجب خروجَ مَن كان من المسلمين بالردَّة في تلك الحال من الإِسلام حتى يستحق بذلك المَنع من أبويه المسلمين. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فأَبواه يهودانِه، أو ينصِّرانِه، اْو يشركانه". أي بتهويدهما أو تنصيرهما، أو تشريكهما، فيكون سببًا إن كان أبواه حُرَّين، ومأخوذًا بعد بلوغه عاقلًا بالجزية إِن كان أبواه ذمِّيين. فهذا عندنا تأويل ما قد ذكرنا. والله سبحانه وتعالى نسأله التوفيق. اهـ.