للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هو عُرْف القرآنِ والحديث.

وحينئذٍ حاصل الحديث: أن كلَّ مولودٍ ولو كانت في بيت كافر فهو محكومٌ عليه بالإِسلام عنده حتى يتكلمَ، أو يبلغَ الحِنْث، كذا يُستفاد من حديث «مسلم». فإِن قلتَ: فما بال صِبيان المشركين الذين ماتوا في صِباهم لا يصلَّى عليهم، فإِنَّهم حينئذٍ مُسلمون.

قلتُ: لأنَّ هذا الحديث وَرَد في النجاة وعدمِها، فهو من باب الآخرة دون أحكام الدنيا، فلا يصلَّى عليهم في الدنيا، ويُحْكَم عليهم بالإسلام باعتبار الآخرة، وينجون من عذابِ الله. واستدل عليه بقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: ٣٠] حيث جعل فيه الفطرة دينًا. قلتُ: ليس فيه ادَّعاه لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: ٣٦] ذلك الدِّين القيِّم. فجعل فيه الأمْرَ التكويني وهو كونُ عِدّة الشهور إثنا عشرَ شهرًا دَيْنًا، وحكم بأن النسئة خلافُ الدَّين. فالصوابُ عندي أنَّ الفِطرة من مقدِّمات الإسلام لا عَيْنه. فهي جِبِلَّة متهيئةٌ لقبولِ الإسلام (١) وبعبارةٍ أُخْرى هي استعدادُ في الولد له بُعْد من الكفر وقُرْب من الإسلام. وبعبارةٍ أُخْرَى هي عبارةٌ عن خلوٍ بُنيتهِ عَمَّا يَحُثُّهُ على الكُفْر.

وحينئذٍ حاصلُ الحديث: أنَّ الوَلَد المولودَ مِنْ بطن كافرٍ ليس في بُنْيتِهِ جزءٌ من الكُفْر. ولولا القوادِحُ ولاموانِعُ لبقي أَقْرَبَ إلى الإيمان، وأَقْبَل له، وليس فيه حُكْم بالإسلام، وأي فائدة في الحُكْم بالإسلام، ثُمَّ الحُكْم باليهوديةِ والنَّصرانية بعد بُرْهة. وهذا الاستعدادُ القريبُ هو الذي سمَّاهُ اللَّهُ دِينًا في قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} إلخ وفي الحديث (٢) أيضًا ما يدلُّ على هذا المعنى، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سَمِعَ في سَفَر صوتَ راعٍ يقولُ: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ فقال: على الفطرةِ، فإنَّها كلمةٌ يعتقِدُ بها العرب أيضًا. ولما شَهِد بالتوحيد والرسالةِ قال خرج من النار. فتبيَّن أنَّ الفِطْرةَ غيرُ الإيمان. فإنَّه لم يَحْكُم عليه بالنجاةِ اللازمة للإيمان ما لم يَسْمع منه الشهادتينِ مع حُكْمه عليه بكونِهِ على الفِطْرة. فالفطرةُ شيءٌ لا يوجِب النجاةَ، بخلافِ الشهادتين فهي مقدِّمةٌ للإيمان، كالأمانة فإنها ليست بإيمانٍ أيضًا، بل مقدمةٌ له وهي عبارةٌ عن عَدَم خداع أحدٍ، ومنه اشتقَّ الإيمانُ وهو معنى قوله: «لا إيمانَ لِمَنْ لا أمانةَ له». وهو المرادُ بقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: ٧٢] ... إلخ وقد قررناه فيما سِبق.

فإن قلت: إن الفطرة إذا كانت عبارة عن الجبلة المذكورة وجب أن يكون أعداد المسلمين أزيد من أعداد الكفار مع أن الأمر بالعكس. قلت: أما سمعت منا فيه قيد انتفاء الموانع والقوادح فكثرة إعدادهم لكثرة الموانع فإذا كثرت الموانع تخلف عنه ترتب النتائج.


(١) ففي "المُحَلَّى": أن المرادَ بالفِطْرَة الحالة والهيأة المهيأة لِمعرفةِ الخالق وقَبول الحقِّ واختيارِ دينِ الإِسلام، لما رُكِّب فيهم من العقول التي يتمكنون بها مِن الهُدَى لو نظروا إِليها نظرًا صحيحًا لاستمروا على لزومِها.
(٢) أخرج "مسلم" عن أنس في حديث أنه سمِع رجلًا يقول: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "على الفِطْرة"، ثُم قال: أشهد أن لا إِله إلا اللهُ. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَرَجْت من النار. فنظروا إليه فإذا هو راعِي مِعْزى". اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>