بكافر ما دام يكون جازمًا بالشهادتين، ومقرًا بهما، خلافًا للمعتزلة، فإنهم قالوا: بالمنزلة بين المنزلتين.
أقول: قوله: «ولا يكفر صاحبها» على تقدير تحقيقه «كفر دون كفر» مُشْكِل؛ فإن موجبه أن يجوزَ إطلاقُ الكفر ولا يتأخر عنه. والجواب عندي: على تقدير التسليم أن مراده الإيذانُ بعدم إكفار صاحب المعصية من جانبه، والاقتصارُ به على المواضع التي ورد بها الشرع. فأينما حكم القرآنُ والحديثُ على أمر بكونه كفرًا جَاز لك إطلاق الكفرِ عليه على طريق: كفر دون كفر، وإلا فلا يُسوَّغُ لك إِطلاق الكفر عليه. وهذا كَحَذْر الشريعة عن اللّعْن، فلا يُسوَّغ لأحدٍ أن يلعن أحدًا من عند نفسه.
ووجه الإشارة أنه جاء بلفظ المضارع، فمعناه لا يكفر في المستقبل. أما الإطلاقُ الذي مضى من جانب الشرع، فهو ماض، والمنع في المستقبل مخافةَ شيوعه في المحل وغير المحل. وعندي شرحٌ آخر أيضًا: وهو أنه لا يكفر صاحبها، لأن المبتادر من إطلاق الكفر، هو كفر الخلود، فيمنع عن إطلاقِهِ دفعًا لهذا التوهم. وله شرحٌ ثالث أيضًا: وهو يُبنى على ما أخرجه الهيثمي في «الزوائد» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه عدّ عِدَّة أشياء ثم قال: ويقال بتركه: به كفر، ولا يقال: إنه كافر، ونحوه رأيت عن علي رضي الله تعالى عنه، ولكن في إسناده راوٍ كذاب. وعن الدارمي (١) أيضًا مثله حيث قال: يقال: به كفر، ولا يقال: إنه كافر.
قلت: إنه لا يُسمَّى كافرًا لأن إطلاقَ اسم الفاعل على من صَدَرَ عنه الفعل مرةً ولم يتكرر، ليس بلطيف في العُرْف، وإن جاز عقلًا. نعم إذا تكرر وصار صفةً له لَطُف إطلاقه. ولذا يقال: إن الفعلَ للواقعة، فمن ضرب مرة يقال: إنه ضرب ولا يقال: فلان ضارب، وفلان سارق وفلان زانٍ، إذا لم يتكرر منه ذلك الفعل. فإن قلت: إن القرآن لم يقل بن كفرٌ بل أطلقَ لفظ الكافر في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: ٤٤] قلت: هذا إطلاق على الطائفة لا على الشخص، وكلامنا في الشخص دون الطائفة، فإنه يجوز أن يقال: لعنةُ الله على الكاذبين، بخلاف لعنة الله عليك، وإن كان كاذبًا.
ويمكن أن يكونَ المصنفُ رحمه الله تعالى أراد منه بيانَ المسألة فقط. بأنه لا يكفر العاصي، ولم يكن أراد شرحَ الأحاديث التي وَرَدَ فيها إطلاق الكفر على المعاصي، وتأويلها بكفر دون كفر. ويحتمل أن يكونَ أراد من قوله: كفر دون كفر، إفادة التشكيك فيه، وأراد من
(١) قال الشيخ رحمه الله تعالى: وكان الدارمي في طبقة البخاري رحمه الله تعالى، وكان أسنَّ منه، ولذا تجد الثلاثيات عنده أزيد من البخاري، وكنيته أبو محمد، ولم يكن البخاري رحمه الله تعالى يُنشدُ شِعرًا، فلما توفي الدارمي أنشد شعرًا على وفاته، وعند محمد بن الحسن رحمه الله تعالى توجد الثنائيات أيضًا، وفي تقرير الفاضل عبد العزيز أن الثنائيات لمحمد رحمه الله تعالى قد جمعها عالم ببلدة الكشمير، وكانت عند شيخنا رحمه الله تعالى أيضًا.