للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المعاصي غير ما أطلق عليه الكفر. والمقصودُ أن ما أطلق عليه الكفرُ في الشرع فقد اندرج في باب كِفر دون كفر. وأما المعاصي من غير هذا النوع فلا يُطلق عليه الكفر، ولا يكفر صاحبها لهذا النوع. ولذا أخرج تحت هذا الباب حديث: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، ولم يُخرج نحو: «قتاله كفر». وأخرج في الباب الأول حديث: كُفران العشير، لمجيء إطلاق الكفر فيه. فيقال في أمثال تلك المعاصي: فيك جاهلية، ولا يقال: فيك كفر. ومن ارتكب القتل والعياذ بالله يقال له: به كفر، هذا كلُّه على ما شرحوا به.

وأما الغرضُ منه على ما قررتُ مرادَه، فالصدع بعدم إطلاق الكفر على المعصية، والتصريح بأنه لم يرد من الباب السابق أن الكفر عرض عريض ولو كان ذهبَ إليه لجوَّز ذلك الإطلاق، فكأنه احتراسٌ منه، وتصريح بعدم إطلاق الكفر من ارتكاب المعصية، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} وهذه الآية نصٌ لأهل السنة والجماعة. وتأوَّل فيها الزَّمخشري. والشرك أخصُّ من الكفر، لأنه الكفرُ مع عبادة الغير، فهو أغلظُ أنواعه. فإنكار الرسالة كفرٌ وليس بشركٍ. وإنما ذكرَ فيها الشركَ خاصة والله أعلم، لأن أكثرهم كانوا يشركون في العبادة فوردت الآية ناعية عليهم. وإنما المراد الكفر مطلقًا (١). ثم استشهد المصنف رحمه الله تعالى من آية أخرى وفيها أيضًا إطلاقُ المؤمن على العاصي، لأن الاقتتال معصية، غير أنه يُوجبُ أن يكونَ اقتتالهم المذكور في الآية كبيرةً، ليثبت إطلاق الكفر عليها، حتى يلزم صحة إطلاق المؤمن على من فيه كفر دون كفر.

قلت: إنما أراد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب إطلاق المؤمن على من فيه جاهلية، ولا ريب في كون الاقتتال من أمور الجاهلية. وحينئذٍ لا حاجة إلى جعل هذا الاقتتال كبيرة.


(١) ووجدت في تقرير الفاضل عبد القدير فيما ضبطه من كلام الشيخ رحمه الله تعالى جوابين آخرين، وتعريبهما على ما فهمت: أن الأولى بحال القرآن البحثُ عن أسباب الشيء لا عن نفسه، والشركُ سبب من أسبابِ الكفر، والكُفْرُ حكمُهُ يتفرع عليه، فاستحسن التعرضَ للشرك دون الكفر، والجواب الثاني: أن عدم مغفرة الكافر غير المشرك واضحٌ، فإنه إما بإنكاره بوجود الله سبحانه وتعالى وعدم مغفرته ظاهر، أو بإنكار رسوله والمناواة، والمعاداة، بذي منصب من الحكومة نفسها، فالبغاوة مع الرسول أيضًا يفضي إلى البغاوة مع الرب عز اسمه، وليس جزاء الباغي إلّا الهلاك، فمنكره، أيضًا هالك على ظاهر الأمر، نعم، الإشكال فيمن أقر بربه ثم جعل يدعوا له ندًا في ذاته أو صفاته، فهل تناله المغفرة أو لا؟ فنبه على أنه أيضًا كأخوين إن مات عليه، و"بالجملة" كان الغموضُ في مغفرة المقر المشرك، لذا وقع التعرض له خاصة. وهناك جواب آخر للشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى في تفسيره ولا يعلق بالقلب ولا ثقة بالنُّسخة أيضًا، غير أن المولوي عبد الله قال: إن نسخة من تفسيره بلغت إلينا من حيدر آباد فطبعناها والشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى معاصر لابن عابدين الشامي ولكنه أفقه منه عندي، ومراد البخاري رحمه الله تعالى أن الكفرَ لما كان غير معفوٍ وما دون الشرك معفو، لزم أنه ليس بكفر، ولا يطلق عليه الكفر، انتهى ما نقله في تقريره.

<<  <  ج: ص:  >  >>