مئة وعشرين على الأربعينيات والخمسينيات إلى الأبد، تَبَادر منه أن يكون هو مراد الشارع. نعم لو انقطع في موضع لكان محل رِيْبة، فإذا استمرّ، ولم ينقطع في موضع، علمنا صحتَه. وأما على مذهبنا فالحديث - وإن كان صادقًا أيضًا - لكنه على مذهبهم أصدق، والحقُّ أحقُّ أن يُتبع.
وتفصيله: أن قوله: «في كل خمسين حِقَة»، مطَّردٌ على مذهبنا أيضًا، إلا أن قوله:«في كل أربعين بنت لَبُون» ينتقضُ في موضع - وهو الاستئناف الأول - لما عرفت أنها ليست عندنا في الاستئناف الأول بنت لَبُون أصلا، ثم إنها وإن كانت في الاستئناف الثاني لكنَّ الفريضةَ لا تدورُ على الأربعين عندنا، فتجبُ بنت لَبُون من ستٍ وثلاثين إلى ست وأربعين، والأربعون واقع في البَيْن، فقوله:«في كل أربعين بنت لبون»، وإن صدق على مذهبنا أيضًا لكنه ليس بلطيف، لأنه لا يظهرُ لتخصيص هذا العدد معنىً، لكونها واجبةً فيما دونه، وفيما فوقه أيضًا؛ ويمكن أن يُجاب عنه أن بيانَ النُّكتة ليس بضروري، وكفى له الصدق مطلقًا.
ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلّم في نِصَاب الشِّيَاه:«فإذا زادت، فثلاث شياه إلى ثلاث مئة»، مع أن ثلاث مئة ليس بمدارٍ، لأن الواجبَ إلى تسعٍ وتسعين، وثلاث مئة هو الثلاثُ بعينِها، فكذلك نقول في الأربعين، فإنَّ بنتَ اللَّبُون تذهب إلى ست وأربعين، فهذا صادقٌ، وإن لم تكن فيه نُكتةٌ. فإن قلت: إن الحِقَّة عندنا تجبُ من ستٍ وأربعين إلى خمسين، فلم يبق في قوله:«في كل خمسين حِقَّة» أيضًا لطفٌ على مذهبنا، فلا بد له من نُكتةٍ. قلتُ: إن الأمرَ كما زعمت، فإن الحِقَّة تجبُ من ستٍ وأربعين، وتذهب إلى خمسين، إلا أن الفريضةَ لما كانت تعودُ من الخمسين، أحال عليه، لُيعلم محلُّ الاستئناف، فلطف على مذهبنا أيضًا.
نعم بقي شيءٌ في قوله:«في كل أربعين بنتُ لَبُون»، فإنه وإن كان صادقًا على مذهبنا - كما عرفتَه - لكنه لا لطفَ فيه، فقيل في جوابه: إنه ليس من الضروريات أن تذكرَ له نُكتةٌ، وصِدْقُه على مذهبنا يكفي للخروج عن عُهْدَةِ قولِه صلى الله عليه وسلّم كما علمت آنفًا، على أنه لا دليل في قوله صلى الله عليه وسلّم على كونه مدارًا، ولذا تَرَكَ ذكرَه في بعض الروايات، واكتفى بالخمسين.
فأخرج الطحاوي في «معاني الآثار» وهذه صورة إسناده: حدثنا سليمان بن شُعيب - تلميذُ الإِمام محمد، ثقة - حدثنا الخَصِيْبُ بن ناصح - فيه لِيْنٌ - حدثنا حمَّاد بن سَلمَة، قال: قلت لقيس بن سعد - قاضي مكة: أكتب لي كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - قاضي المدينة - فكتبه لي في ورقة، ثم جاء بها وأخبرني أنه أخذه من كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم (١)، وأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتَبه لجده عمرو بن حزم في ذكر ما يخرج من فرائض
(١) وقال أبو الفرج: قال أحمد بن حنبل: حديث ابن حَزْم في الصَدَقات صحيحٌ. ومذهبُنا منقولٌ عن ابن مسعود وعلي. وكفى بهما قُدوةً. وهما أفقهُ الصحابة، وعليٌ كان عاملًا، فكان أعلمَ بحال الزكاة. وما رواه الشافعي قد عملنا بموجبه، فإنَّا أوجبنَا في أربعين بنت لَبُون، وفي خمسين حِقَّة. فإنَّ الواجبَ في الأربعين ما هو الواجب في ستٍ وثلاثين، والواجب في الخمسين ما هو الواجب في ست وأربعين. ولا يتعرَّضُ هذا الحديثُ لنفي الواجب عما دُونه، فنوجِّههُ بما روينا. اهـ ... تبيين الحقائق. ص ٢٦١ - ج ١. قلت: ولكن بين الصدق واللطف فرقٌ، وقد أوضحه الشيخُ رحمه الله تعالى.