عاصم الظاهري في «كتاب الديات». فإِنه يدلُّ على أن الحديثَ في العشر لا في الصدقات المتفرِّقة، كما ذهب إليه العيني. ولا من باب التجارة، كما اختاره صاحب «الهداية».
والذي وضح لدَيّ في هذا المطلب أنه محمولٌ على العَرِيَّة، وتفصيلُه ينبني على مقدمةٍ، وهي أن زكاةَ السَّوائم، والخارج من الأرض من حقوق بيت المال، فيأخُذَها الساعي ويرفعها إليه، وليس لأصحاب الأموالِ أن يدفَعُوها إلى المساكين بأنفسهم. أما زكاةُ الثمارِ الرَّطْبة فيلزم من كُتُب الحنفيةِ أنَّه يجوزُ دفعُها للمالكين أيضًا، ولا يجب دفعُها إلى بيت المال، وإن لم يكتُبُوه، بشكل المسألة، فإِنها مما يَتَسَارعُ إليه الفساد، فيتعسَّر حملُها إلى بيت المال، أو يتعذر، فيصرفها المالك في مصارفها بنفسه. كما قال الشيخ ابن الهمام في قوله صلى الله عليه وسلّم «ليس في الحضْراوات صدقة».
إنَّ النفي فيه محمول على صدقةٍ تُرفع إلى بيت المال، فلا دليلَ فيه على نفي الصدقة رأسًا. فخرجَ منه أن المسألةَ فيما يتسارعُ إليه الفساد، أن لا ترفعَ زكاتُه إلى بيت المال، بل يؤديها صاحبها بنفسه. وفيه إشارة إلى أن إطلاقَ الصدقة في عُرفهم كان على صدقة تُرفع إلى بيت المال. وأما ما كان يصرِفه الرجل بنفسه فلم تكن تُسمَّى صدقة، وهذا عرف معقول. فإِن بيتَ المال إذا لم يأخُذْها وتركها إلى المالكين لينفقوها في سُبُل الخير كيف شاءوا، صارت في نظره كأن لم تكن، لم يبق له عنها بحث. فهي عفو بمعنى عدم أخذها منهم، لا بمعنى عدم الوجوب رأسًا.
كيف! والله سبحانه قد أوجب فيه العُشرَ عندنا. وبعبارة أخرى أنه إذا لم تظهر، لوجوبها ثمرةٌ لبيت المال صارَ كأنه لم يجب في نظره، فصحَّ التعبيرُ بالعفو مرة، ونفي الصدقة أخرى. ومن ههنا ظهر لك شرح آخر لقوله صلى الله عليه وسلّم «عَفَوت عن صدقةِ الخيل»، فلعله لم يرد بذلك نفيَ الزكاة رأسًا، بل عدم وجوب أدائها إلى بيت المال على شاكلة الأموال الباطنة، فصار عفوًا بهذا المعنى.
إذا علمت هذا، فاعلم أن العربَ قد جرت عادتهم بأنهم كانوا يُعيرون أشجارًا للفقراء ليأكلوا من رطبها، فأباح لهم الشرع أن يفعَلُوها في خمسة أوسق، ثم أمر عامِليه أن لا يأخذوا منها شيئًا، لأنه يُؤدي إلى تثنية الزكاة في سنة. أو امتناعِ الناس عن الإِنفاق بأنفسهم، وكان مما لا بُد لهم بحَسَب عاداتهم، فعفى عنهم لهذا. وحينئذٍ صارت شاكلتُه شاكلة قوله صلى الله عليه وسلّم «عفوت عن صدقة الخيل»، وقوله صلى الله عليه وسلّم «وليس في الخضراوات صدقة» على شرحنا. فإنَّ الزكاةَ في كلها منفية باعتبار رفعِها إلى بيت المال، لا لعدم وجوبها.
بقي مطالبة البرهان، على أن تلك الخمسة هي التي في باب العَرِيَّة، أو غيرها، وأنَّ عدمَ أخذ الزكاة من هذه الخمسة لكونها عَرِيَّة، أو لعدم وجوب الزكاة فيها. فأقول وبالله التوفيق: أما إن خمسة أوْسُق هذه هي التي فيها العَرِيَّة، فلما أخرجه الطحاوي: ص ٢١٢ عن أبي هريرة مرفوعًا «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رخص في بيع العَرَايا في خمسة أوْسُق، أو فيما دون خمسة أوسق» ... إلخ، فلما رأيتُ أنه رخص فيه بالعَرِيَّة في هذه الأوسق، ثم رأيت في باب الزكاة