للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هذا الباب في الميقاتِ الزماني، كما أن الباب السابق كان في الميقات المكاني. وهي عند فقهائنا: شوال، وذو القَعدة، وعشرُ ليالٍ من ذي الحجة. فمن وقفَ ليلةَ النحرِ بعرفة، فقد أدرك الحجّ ومن فات عنه الوقوف من تلك الليلة أيضًا، فقد فات عنه الحج، ولذا قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، ولم يقل: فمن حج فيهن، فإنَّ افتراضَ الحجِّ يتلعقُ بهنَّ فقط، وإن كان بعضُ المناسكِ، كالرمي وغيره، بعد تلك العشر أيضًا.

والمراد من العشرةِ عند الشافعية عشرةُ أيامٍ. وقد مر أنَّ المرادَ عندنا الليالي. وأما عند مالك، فذو الحِجة بتمامها، وهو ظاهر قوله تعالى: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فإنه أقلُّ الجمع، ولعله أخَذَها بتمامِهَا لكون الأضحية تصحُّ عندَه، إلى آخر الشهر. فلمّا بقيَ بعضُ أحكامِهِ إلى آخر الشهر، اعتبر كلَّ الشهر من أشهر الحج.

قيل في توجيه الجمع على مذهب الجمهور: إن معناه الحج في أشهرٍ معلوماتٍ، فلم يقتض الاستيعابَ فرقًا بين حذف «في»، وذكرها، كما ذكروه في قوله: أنت طالقٌ غدًا، وفي غدٍ. ثم إن قول ابن عمر: عشر من ذي الحِجة، بدون التاء، يوافقنا. ولو كان المراد به الأيام لأتى بالتاء، قال تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: ٧] ثم إن الرَّفَثَ والفسوقَ، وإن كان ممنوعًا في سائر الأيام، غير أنه في تلك الأيام أشد، كذا في «المدارك».

قوله: (وقال ابن عباس) من السنة أن لا يُحرِم بالحج إلا في أشهر الحج، وهي مسألة كراهيةِ تقديمِ الإِحرام على الميقات الزماني.

قوله: (وكره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان) ... إلخ، وقِصَّتُه أنَّ عامِلَه كان نذر لئنْ فتحَ اللهُ عليه كَرْمان ليحجنَّ إلى بيت الله محرِمًا، ففتح اللهُ تعالى له فأوفى بنذره، وأحرم من كرمان، فَعَاب ذلك عثمان، وقال: «إنك جاهدت في سبيل الله وغزوت، ثم صَغَّرْت أمر الحج»، ومراده أنك أحرمتَ من بُعدٍ بعيد، وما خشيت الجنايات في الحج. وحينئذٍ تبين لي أن نهيَه إنما كان من أجل مخافة الجنايات، وراجع «الأسماء والكنى» للدُّوْلابي (١). وحرر ابن أمير حاج أنَّ التمتعَ قد يفضُلُ القِرَان بالعوارضِ، كما في هذه القِصة، فإنَّ المتمتعَ يُحِلُّ بعد العمرة، فيأمنَ عن الجِنَايات، بخلاف القارن، فإنَّه التمادي إحرامه لا يأمنُ عنها. والاحترازُ من الجناياتِ أحبُّ من لتمادي في الإِحرام.


(١) قلت: أما قصته فقد أخرَجها الحافظ من "تاريخ مرو"، قال: لما فتحَ عبدُ الله بن عامر خُراسان، قال: لأجعلن شكري لله أنْ أخرجَ من موضعي هذا محرمًا، فأحرم من نيسابور، فلما قَدِمَ على عثمان لامه على ما صَنعَ.
وأخرجها عن عبد الرزاق، قال: أحرم عبد الله بن عامر من خُرَاسان، فقدِمَ على عثمان فلامَهُ، وقال: "غزوتَ وهانَ عليك نُسُكك". وقد كشفَ الشيخ ما المرادُ من هَوانِ الحج. وأما مناسبةُ هذا الأثر، فقال الحافظ: إنَّ بين خُرَاسان ومكة أكثرُ من مسافة أشهُرِ الحج، فيستلزمُ أن يكونَ أحرمَ في غير أشهر الحج، فكرِه ذلك عثمان، وإلا فظاهره يتعلَّقُ بكراهة الإِحرام قبل الميقات، فيكونُ من متعلّق الميقات المكاني لا الزماني.
هذا ما عند الحافظ، أما عند الشيخ فقد علمت أنه لا يتعلق بمسألة الميقات مطلقًا، وإن كان فباعتبارِ لزومِ الجِنَايَات.

<<  <  ج: ص:  >  >>