حِسًا، بخلاف ما إذا لم يصادفها حِلٌّ، فإنَّها لا تتميزُ عنه كذلك، وإن كانت معتبرةً عند الفقهاء، فإنها إذا تميزت عن الحج بحلَ، لم يسع لهم إخمالها، وإذا لم تتميز جاز لهم أن يغمِضُوا عنها في العبارة، وهو الملحَظُ في قولهم:«إنهم طافوا طوافًا واحدًا»، لأن طوافَهم للعمرة إذا لم يتميز عن طوافِهم للحج بحلَ في البيْنِ، لفُّهوهما في عبارة واحد، وعبَّرُوا عنهما بطوافٍ واحدةٍ. وقد مر غير مرة أن الرواةَ يعتبرون بالحِسِّ، ولا بحثَ لهم عن الأنظار المعنوية، على عكس أنظارِ الفقهاء، فإنَّ موضوعَهم كشفُ الملاحظ.
قوله:(فمنعت العمرة)، قد علمتَ الخلافَ بيننا وبين الشافعي في إحرام عائشة، فإنَّها كانت معتمرةً عندنا، وقارنةً عندهم، وأنها كانت رفضتْ عمرتُها عندنا، ولم ترفض عندهم. ويؤيدنا اللفظ المذكور، وكذا قوله صلى الله عليه وسلّم لها:«كوني في حجتك» ... إلخ، وقوله صلى الله عليه وسلّم «عسى الله أن يرزقكيها»، وقوله:«هذه مكان عمرتك»، وقوله:«وهي عمرتك وانقضي رأسك، وامتشطي»، وكذلك قول عائشة:«لم أطف بين الصفا والمروة»، تشكو حُزنها وبثَّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكذلك قولها:«يرجع الناسُ بحجةٍ وعمرةٍ، وأرجع بعمرة فقط» ففي كلها آياتٍ بيناتٌ، على أنها لم تأت بأفعال العمرةِ، ولكنها أفردتْ بالحج، ثم أتت بالعمرة قضاءً مما كانت رفضتها، وأنَّ طوافها للحج لم يُحسَبْ عن طوافها للعمرة. فإن قلنا: إنها كانت قارنةً، وأن طوافها للحجِّ حُسِبَ عن طوافِها للعمرة، كما يقول الشافعي بتداخل العمرة في الحج، لما كان لهذه الأقوال معنىً صحيح (١).
فالعجبُ أنَّها تبكي، وتشكو بثَّها، وتُظهِرُ جَزَعها لعدم عمرتِها، وتضطربُ لفواتها، ثم لا يقول لها النبي صلى الله عليه وسلّم ما هذا الاضطراب، وما هذه الشكوى، فإنَّ عمرتَك قد أديت في الحج، مع أنها ألحت عليه ثلاث مرار في سَرِفٍ، وفي مكة قبل الطواف، وفيها بعد الحجِّ عند العزمِ بالرجوع، ومع ذلك لم يُعْلمها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أنَّ القارنَ لا يحتاج إلى الاعتمار مستقلا.
ثم العجب من مثلِ عائشة رضي الله عنها، أنها اضطربت لأمرٍ لم يفعلْه النبي صلى الله عليه وسلّم أيضًا، وإنما كان هذا محلُّ افتخارٍ وابتهاج، أنها وافقت النبيَّ صلى الله عليه وسلّم في الأفعال، فإنْ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف لهما طوافين، ولم يسع سعيين، فعلى أي أمرٍ كانت تتحسَّر؟ أعلى أمرٍ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدل على أنَّها كانت ترى الناس فائزين بالطوافين، كما نطقت به أيضًا، حيث قالت:«يرجع الناس بحجةٍ وعمرة» ... إلخ، ونفسها خائبةً عن إدراك طواف العمرة، فتحسرت لذلك.
(١) قال العلامة المارديني: وقول عائشة: "ترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج"، صريح في رفضِ العمرة، إذ لو أدخلت الحجَّ على العمرة لكانت هي وغيرها في ذلك سوَاء، ولما احتاجت إلى عُمرة أخرى بعد العمرة والحج اللذين فعلتهما. وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن عمرتها الأخيرة: "هذه مكان عمرتك، صريح في أنها خرجت من عُمرتها الأولى، ورفضتْها، إذ لا تكون الثانية مكان الأولى إلا والأولى مفقودة. وفي بعض الروايات: "هذه قضاء عن عمرتك". وسيأتي في باب العمرة قبل الحج ما يقوي ذلك. وقال القُدُوري في "التجريد": ما ملخصه: قال الشافعي: لا يعرفُ في الشرع رفضُ العمرة بالحيض. قلنا: ما رفضتها بالحيض، ولكن تعذرت أفعالها، وكانت ترفضها بالوقوف، فأمرها بتعجيل الرفضِ. اهـ. "الجوهر النقي".