سوى ذكرُه، فيكون له جِوار إلى الله، وصُراخ بالتلبية لا غير، وحداثَةُ عهده بالنكاح يخالِفُ هذا التبتل.
هذا هو معنى النهي عندنا، ألا ترى أنه نُهي أن يخطِب، وأنت لا تقوله: إنه حرام، بل تحمِلُه على معنَى ما حملنا عليه الجملَة الثانية، فالقولُ بصحة الخِطبة، وبطلان النكاح فكٌّ في النظام، ونقضٌ للاتساق.
ثم نقول: إن أصلَ النزاع في تزوجه صلى الله عليه وسلّم ميمونة، واختلفت فيه الروايات، ففي بعضها:«أنه تزوجها وهو حلال»، كما يرويه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان هو الرسولُ بينهما، ويزيد بن الأصم، وهو ابن أخت ميمونة. وترويه هي أيضًا. مع أنَّها صاحبةُ الواقعة. وفي بعض الروايات:«أنه تزوجها وهو محرم»، كما يرويه ابن عباس، واحتج الخصوم بالأولى، والحنفية بالثانية.
والجواب أنَّا نُسلِّمُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسلَ أبا رافع للخِطبة، ولكنَّ ميمونةَ كانت وكَّلت بأمر نكاحها عباسًا، فكان هو العاقد، وأنت تعلمُ أنَّ الرسول سفيرٌ محضٌ، بخلاف الوكيل، فإنَّه يتولَّى أمر النكاح، وبلسانه يجري العقد والفسخ، فالعبرةُ به أولى. ومن ههنا تبين أن قولَ ميمونة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم تزوَّجَها وهو حلالٌ، لا يوازي قول ابن العاقد، فإنَّها إذا فوضت أمرها إلى غيرها، لم تعلم بأمر النكاح إلا عند البناء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذ ذاك حلالا.
أما ابن عباس فكان ابن العاقد، فعنده زيادةُ خبرٍ، ووثاقةٌ على ما فعله أبوه. ويروى هو أنه تزوجها وهو محرمٌ، مع أنه خِلاف أمر الحج، فلا يقول إلا أن يكون عنده علمٌ كالعيان، ولذا رجح البخاري حديثَه، ولم يخرج حديثَ الخصوم، وإن أخرجه مسلم، فالبخاري وافَقَنَا في المسألة. وهذا من دأبه القديم، أنه إذا اختارَ جانبًا ذهب يهدِر الجانب الآخر، ويجعله كأنه لم يكنْ شيئًا مذكورًا، فلا يخرجُ له حديثًا، كأنه أمرٌ لم تَرِدْ به الشريعة.
وكذا يزيد بن الأصم لا يعارضُ حديثه حديث ابن عباس، حتى قال عمرو بن دِينار حين روى ابن شهابٍ حديثَ يزيد: أتجعلُ أعرابيًا بوالا على عقبيه، إلى ابن عباس؟، وهي خالة ابن عباس أيضًا، كذا في «الدارقطني».
وههنا دقيقةٌ أخرى قلّ من تنبه لها، وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لم يباشر العقدَ بنفسه الشريفة، بل وكل به عباسًا، احترازًا عن صورة العقد بنفسه، وهو محرم، فأحبَّ أن يعقِدَ غيره، لئلا يكون ناكحًا صورةً، فاحترز عنها بقدر الإِمكان، فسبحان الله هذه مدارك الأنبياء عليهم السلام، ولا ينكشفُ الغِطاء عن وجه المقصود ما لم يتبين أنَّ تزوُّجه كان ذاهبًا إلى مكة أو آيبًا منها، فإن كان الأول، تعيَّن كونه في الإِحرام، وإن كان الثاني فلا يكون إلا وهو حلال. وقد ذكر الطحاوي في «مشكلة» في تحرير القِصة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أرسل أبا رافع إلى ميمونة للخِطبة، وكانت بمكة، فوكلت