وإنما الوجه فيه -والله أعلم- أن نقول: قد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طلحة بن عُبيد رضي الله تعالى عنه: جاء رجل من أهل نجد ثائر الرأس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث. وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفلح الرجل وأبيه إن صدق - فإنه ليس بحَلِفٍ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يشرك بالله، وقد أخبر أنه شِرْك، وإنما هو تدعيمٌ للكلام وصلة له، وهذا النوع وإن كان موضوعًا في الأصل لتعظيم المحلوفِ به، فإنهم قد أسبغوا فيه حتى كانوا يدعمون به الكلام، ويوصلونه وهذا النوع لا يراد القسم، وأما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن جمعه زمان النبوة فإن بعضهم كانوا يحلفون بآبائهم تعظيمًا لهم، وبعضهم عادة، وبعضهم عصبيةً، وبعضهم للتوكيد، وقد أحاط بسائرها دائرة النهي، وإن كان بعضها أهون من بعض، لئلا يلتبس الحق بالباطل ولا يكون مع الله محلوف به، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن امتازَ عن غيره بالعصمةِ عن التلفظِ: بما يكادُ يكون قادحًا في صِرْف التوحيد، ولا يشبه حالُه في ذلك حالَ غيره، فالظاهر أن اتساعه في استعمال هذا اللفظ قد كان قبل النهي، ولم يعد إليه بعدهَ كيلَا يقتدِي به من لا يهتدي إلى صِرْف الكلام. والله تعالى أعلم. انتهى. وقال الخطَّابي: هذه كلمة جارية على ألسن العرب، تستعملها كثيرًا في خطابها، تريد بها التوكيد، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَحلِفَ الرجل بأبيه، فيَحتملُ أن يكون هذا القول منه قبل النهي، ويحتمل أن يكون جرى ذلك منه على عادة الكلام الجاري على الألسن، وهو لا يقصد به القسم، كلغو اليمين المعفو عنه، قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} الآية قالت عائشة: هو قول الرجل في كلامه: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك. وفيه وجه آخر: وهو أن يكونَ - صلى الله عليه وسلم - أضمرَ فيه اسم الله كأنه قال: لا ورب أبيه، وإنما نهاهم عن ذلك لأنهم لم يكونوا يضمرون ذلك في أيمانهم، وإنما كان مذهبهم في ذلك مذهب التعظيمِ لآبائهم ويُحتمل أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا كان ذلك منه على وجه التوقير له، والتعظيم لحقه دون ما كان بخلاف والعرب قد تطلق هذا اللفظ في كلامها على ضربين: أحدهما: على وجه التعظيم والآخر: على سبيل التوكيد للكلام دون القَسم. =