«أو يكون بيعَ خِيَارٍ» بالإِضافة، فإنه يَدُلُّ على التنويع، وحملُه على القول:«اخْتَرْ اخْتَرْ»، ركيكٌ. ولمَّا ورد هذا القول أيضًا في بعض الروايات، وَجَبَ علينا أن نتكلَّم عليه.
فاعلم أنهم افْتَرَقُوا في شرح الحديث على فِرْقَتَيْنِ: فقال الشافعيةُ: إن المراد من التفرُّق هو التفرُّق بالأبدان، فهما على خِيَارهما قبل التفرُّق بالأبدان، وإن كانا فَرَغَا عن منطق الإِيجاب والقَبُول. ثم إن هذا الخِيَار إمَّا ينتهي ب-: «اخْتَرْ اخْتَرْ»، أو يمتدُّ إلى ما وراء المَجْلِسِ حسبما اقتضى كلامهما.
وقال محمد منَّا: هذا على الافتراق بالأقوال، فإذا قال البائعُ: قد بِعْتُ منك، وقال المشتري: قد قَبِلْتُ، فقد تفرَّقا، وانقطع خِيَارُهُما. لأن الذي كان لهما من الخِيَارِ: هو ما كان للبائع أن يُبْطِلَ قوله للمشتري: وقد بِعْتُكَ هذا العبد بألف درهمٍ، قبل قَبُول المشتري، فإذا قَبِلَ المشتري، فقد تفرَّق هو والبائع، وانقطع الخيارُ. فهذا كما ذكر الله عز وجل في الطلاق {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}[النساء: ١٣٠]، فكأنّ الزوجَ إذا قال للمرأة: قد طَلَّقْتُكِ على كذا وكذا، فقالت المرأة: قد قَبِلْتُ، فقد بانت، وتفرَّقا بذلك القول، وإن لم يتفرَّقا بأبدانهما. فكذلك إذا قال الرجل للرجل: قد بعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال المشتري قد قبلتُ، فقد تفرّقا بذلك القول، وإن لم يتفرّقا بأبدانهما، كذا ذكره الطَّحَاوِيُّ. ونظيره قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: ١٠٣] أي التفرُّق عن الكلمة، وفي الكُتُب: افترقوا عن كلمةٍ واحدةٍ.
قلتُ: والأَوْلَى عندي أن يُقَال: إن المراد من التفرُّق هو التفرُّق بالأبدان، كما هو عندهم، لكنه كِنَايةٌ عن التفرُّق بالأول، والفراغ عن العقد، لأنهما بعد فراغهما عن العقد في مُكْنَةٍ من التفرُّق بالأبدان، فالتفرُّق بالأبدان مُكَنَّى به، والتفرُّق بالأقوال مُكَنَّى عنه. وقد مرَّ منا عن قريبٍ: أن اللفظ في الكناية لا يَخْرُجُ عن المعنى الموضوع له، وإن كان الغرضُ في لوازمه، وروادفه. وإن شِئْتَ قُلْتَ: إن التفرُّقَ بالأبدان عنوانٌ للتفرُّق بالأقوال، وصادق عليه صدق العنوان على المُعَنْوَن.
وبالجملة إذا كان التفرُّقُ كنايةً عن الفراغ، لم يَبْقَ فيه بُعْدُ لغةٍ أيضًا، ومن ههنا تبيَّن سرُّ تعبير الفراغ عن التفرُّق في القرآن أيضًا. ثم إن ما ذكره الطَّحَاويُّ في تقرير كلام محمد هو الصواب عندي، وإليه تُرْشِدُ عبارته في «موطئه». فما فَهِمَهُ ملا الهداد في «حاشية الهداية» صوابٌ، وأمَّا ما ذَكَرَهُ ابن الهُمَام في «شرحه»، فبعيدٌ عندي. فإنه حمل التفرُّق بالأقوال على تفريقهما في الصَّفْقَة، فيقول هذا شيئًا، وهذا شيئًا، نحو إن قال البائع: بِعْتُه بمئة، وادَّعَى المشتري أنه باعه بخمسين مثلا، فهذا هو التفرُّق المَعْنِي في الحديث عنده.
وإنما حمل الشيخ ابن الهُمَام على المعنى المذكور، لِمَا اشتهر عن محمد: أن التفرُّقَ عنده على التفرُّق بالأقوال، فَحَمَلَهُ على الاختلاف في الأقوال، وليس بصوابٍ، فإن محمدًا لم يُرِدْ من التفرُّق بالأقوال ما فَهِمَهُ، فالصواب ما فَهِمَهُ ملا الهداد.