وبالجملة ليس مدلول العبارة عند محمد أيضًا إلا التفرُّق بالأبدان، إلا أن مناط الحكم عنده هو فراغهم عن الإِيجاب والقَبُول، وهذا هو الذي عَنَاه من التفرُّق بالأقوال، لا كما فَهِمَه ابن الهُمَام: أنه عبارةٌ عن عدم ارتباط الإِيجاب والقَبُول.
وقال عيسى بن أَبَان: الفُرْقَةُ التي تَقْطَعُ الخِيَارَ المذكور في هذه الآثار هي الفُرْقَةُ بالأبدان، وذلك لأن الرجلَ إذا قال للرجلِ: قد بِعْتُكَ عبدي هذا بألف درهم، فللمُخَاطَبِ بذلك القول أن يَقْبَلَ ما لم يُفَارِقْ صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يَقْبَلَ. قال: ولولا أن هذا الحديث جاء، ما عَلِمْنَا ما يَقْطَعُ ما للمُخَاطَب من قَبُول المخاطبة التي خاطبه بها صاحبه، وأَوْجَبَ له بها البيع. فلمَّا جاء هذا الحديث، عَلِمْنَا أن افتراقَ أبدانهما بعد المخاطبة بالبيع يَقْطَعُ قَبُول تلك المخاطبة. وقد رُوِيَ هذا التفسير عن أبي يوسف، كذا في الطحاويِّ.
فالفُرْقَةُ على هذا التقدير هي الفُرْقَةُ بالأبدان، كما قال الشافعيةُ، إلا أنهم أرادوا من الخِيَار خِيَارَ المَجْلِسِ، وأراد منه أبو يوسف خِيَارَ القَبُول. وقد عَلِمْنَا من كلامه كلِّيَّةً، وهي: أن المَجْلِسَ جامعٌ للمتفرِّقات، فهما على خِيَارٍ بين القَبُول والرَّدِّ، وزيادة الثمن ونُقْصَانِهِ ما دام المَجْلِسُ باقيًا، فإذا تفرَّقا عن المَجْلِسِ انقطع الخيارُ، وتمَّ البيعُ. ولا يَرْتَبِطُ بعد المَجْلِسِ قَبُولُه من إيجابه، بل يحتاج إلى إيجابٍ مُسْتَأْنفٍ، بخلافه في المَجْلِسِ، فإن القَبُولَ يَرْتَبِطُ مع الإِيجاب، وما ذاك إلا لكون المَجْلِسَ جامعًا للمتفرِّقات. وحينئذٍ شرح قوله: أو «يَخْتَارَا» أي يَخْتَارَا البيعَ بالإِيجاب والقَبُول، فحينئذٍ يتمُّ العقدُ؛ ولا يبقى له خيارُ القَبُول في المَجْلِسِ أيضًا. ومعنى قوله:«إلا أن يكون بيعَ خِيَارٍ»، أي فحينئذٍ يمتدُّ خِيَارُه إلى ما وراء المَجْلِسِ، ولا ينتهي بالإِيجاب والقَبُول. ولولا هذا الشرط لانتهى بعد القَبُول، وتمَّ العقدُ بتًا.
فتحصَّل من المجموع ثلاثة شروح: شرحٌ للحجازيين وشرحٌ لمحمد، وشرحٌ لأبي يوسف، وتبيَّن في ضِمْنِه الجواب عن الحديث أيضًا. ومحصَّل الخلاف بيننا وبين الشافعيِّ: أن الخِيَارَ عنده بعد اختتام الإِيجاب والقَبُول، يبقى إلى المَجْلِسِ، وهو عندنا في نفس الإِيجاب والقَبُول، لا بعدهما. وقال فاضلٌ من الحنفية في شرح الحديث بجميع ما قاله الشافعيةُ، إلا أنه حَمَل خِيَارَ المَجْلِسِ على الاستحباب، لا على الوجوب. فإذا كان المَجْلِسُ باقيًا، وأراد المشتري أن يَرُدَّ على البائع بَيْعَهُ، يُسْتَحَبُّ له أن يَرُدَّه، فإن الإِقالةَ مُسْتَحَبَّةٌ في الأحوال كلِّها، فلا مخالفة فيه للمذهب. وحينئذٍ لا خلافَ بيننا وبين الشافعية، إلا أنهم أخذوا هذا الخِيَار على الوجوب، وحَمَلْنَاهُ على الاستحباب (١).
(١) قلتُ: وقد تكلَّم الطَّحَاويُّ على الحديث المذكور في "معاني الآثار"، وأضبط منه في "مشكل الآثار". وأنا آتيكَ ببعضٍ منه، كما في "المعتصر"، عن جابر بن عبد الله أنه قال: "اشترى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أعرابي -قال: حَسِبْتُ أن أبا الزُّبَيْر قال: من عاصم بن صَعْصَعَة- حملَ قَرَظٍ، أو حمل خبط، فلمَّا وَجَبَ له، قال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اختر. قال الأعرابيُّ: إن رأيتُ مثل اليوم قط بيعًا خُيِّرَ بائِعُه، ممن أنت؟ قال: من قريش. في قوله: "اختر" دليلٌ على وجوب البيع قبل التخيير. وقد يحتجُّ به من قال بالخِيَارِ حتى يتفرَّقا بدنًا، وقد ذكرنا وَجْهَهُ، واستدللنا عليه بحديث اللَّيث. =