للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والحافظ نقله في «الفتح»، ولم يَرْضَ به، كما أنه لم يَرُدَّه أيضًا، وهو المختارُ عند شيخنا - شيخ الهند - محمود حسن رحمه الله (١)، ويُؤَيِّدُهُ ما عند أبي داود: «حتى يتخايرا ثلاثًا»، فإن


= وإنما خيَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأعرابي، ليكون له ثواب "من أقال نادمًا بيعته". ورُوِيَ أن ذلك كان قبل مبعث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقبل النبوة. ورُوِيَ عن طاوس، عن أبيه، قال: "ابتاع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة من أعرابيٍّ بعيرًا أو غيره، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد البيع: اختر، فنظر الأعرابيُّ إليه فقال: لعَمرِ الله ممن أنت؟ فلمَّا كان الإِسلام جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد البيع الخيارَ"، وهذا على الاختيار لا على الوجوب، والله تعالى أعلم. انتهى. قلتُ: وهذا عَيْنُ ما أجاب به شيخُ الهند، وراجع بَسطَهُ من "المعتصر".
(١) قلتُ: وعندي تقريرٌ من بعض فضلاء تلامذة حضرة شيخ الهند، فأريد أن أعرِّبه لك من هذا الموضع، لتزدادَ بصيرةً في فَهْم كلامه رحمه الله تعالى. وحاصلهُ: أن المرادَ من الخِيَار عند الحنفية خيار القَبُول، ولكن لا يُلَائِمُهُ قوله: "أو يخَتارا"، وكذا لا يُلَائِمُهُ فعل ابن عمر، فإنه يُوجِبُ ترك الاستحباب على الأقل، وهو أيضًا بعيدٌ من شأنه الرفيع. أمَّا ما أورد عليه الترمذيُّ بأنه لا يكون، لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يَحِلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله". اهـ. على هذا التقدير معنى، فليس بواردٍ، لأنا نقول: إن له معنىً صحيحًا، وهو: أن البائعَ قد يَسْبِقُ على لسانه من ثمن المبيع ما هو أقل منه، فيقول: خمسة دراهم، مكان العشرة، فأرشد الشرعُ المشتري أن لا يُعَجِّل في الفُرْقَة بالأقوال، ولا يتسارع بالقَبُول حتى يُمهِلَهُ. فإن كان الثمن هو الثمن، فله أن يَقبَلَهُ، وإن كان سبق عن لسانه، والثمن فوقه، فإن شاء أخذه بذلك الثمن، وإن شاء رَدَّهُ، ومثله كثيرًا ما يقع في البِيَاعَات.
وحينئذٍ تكون الاستقالة على المعنى اللَّغوي: الفسخُ مطلقًا، فإن الإِقالةَ اصطلاحًا لا تكون إلَّا بعد تمام العقد، وهذا تقريره على المشهور. وأمَّا المختار عنده: أن الحديثَ محمله محمل الشافعية. ونقول: إن الخيارَ ثابتٌ عندنا أيضًا، لكنه مشروطٌ برضاء صاحبه. فإن في الخِيَارِ مراتب: منها ما تَثْبُتُ ولا تتوقَّف على رضاء أحدٍ، وتلك أعلى مراتبه.
ومنها ما تَثبُتُ وتتوقَّف على رضاء الآخر، كما في الإقالة، وتلك دونها، فهذه المرتبة هي المراد ههنا. وحينئذٍ معنى الحديث: أن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرَّقا، أي بخيارٍ يتوقَّف على رضاء الآخر، وَيصِيرُ ذلك إقالة يُحْرِزُ بها صاحبُها أجرَها، لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من أقال مسلمًا في بَيعَتِهِ، أقال الله عثراته يوم القيامة" -بالمعنى-.
فإن قلتَ: إذا حملتَ الحديثَ على الإِقالة، فما معنى التقييد بالمَجْلِسِ. فإنها مُستَحَبَّةٌ في الأحوال كلِّها، مع أن الحديثَ ورد في الخِيَار الذي يكون في المَجلِسِ. قلتُ: هَبْ، ولكن هذا الخِيَار أوْكَدُ في المَجْلِسِ، وإن اسْتُحِبَّ له أن يُقِيلَ بعد المَجْلِسِ أيضًا. وذلك لأن المجلسَ إذا لم يتبدَّل، والمبيع لم يَزَلْ بعينه لم يتصرف فيه المشتري بشيء، ثم أراد أن يرده لما رأى فيه مصلحة، فحينئذٍ أولى له أن يقيله، ويرد منه بيعه، فإن إباءَه حينئذٍ أبعدُ عن المروءة، كيف! وأنه لم يَدْخُل في سلعته نَقصًا، فأيُّ حرجٍ في الإِقالة؟ بخلاف ما إذا تبدَّل المَجْلِسُ، فإنه لا يأمن من أن يكون تصرَّف فيه بشيءٍ، لأنه غابت سلعته عن مرآه حينئذٍ، وإن اسْتُحِبَّتْ له الإِقالة أيضًا، لكنها لا تتأكَّدُ تأكُّدَه فيما إذا لم يتفرَّقا عن المَجْلِسِ. هدا هو الوجه فيما علمنا، لا أن البيعَ لا يَنعَقِدُ قبل التفرُّق بالأبدان، كما فَهِمُوه. وحينئذٍ لا تَرِدُ عليه قصة أبي بَرزَة الأَسلَمِيِّ، لأنه إنما أمره برد البيع، لكونه أقرب إلى المروءة، ومقتضى الإسلام، حيث لم يتفرَّقا عن مجلس العقد، فماله لا يَقِيلُ من أخيه، فذلك الذي أراده أبو بَرزة -والله تعالى أعلم- لا أن البيعَ لم يَتِمَّ عنده. ولو لم نَحمِلْهَا على هذا المعنى، لم يَستَقِمْ على مذهب الشافعية أيضًا، فإنهما وإن بَقِيَا في السفينة من ليلتهما، لكن لا بدَّ أن يكونا قاما لحوائجهما، وبذلك تتبدَّلُ المجلسُ عند الشافعية أيضًا، فَيلْزَمُ أن لا يكون الخيار لهما عنده أيضًا، ولكنه أراد -والله تعالى أعلم- أنكما لمَّا كنتما في سفينةٍ واحدةٍ، فلم تفرقتما تفرُّقًا يُوجبُ الإِباء عن ردِّ البيع، فيُستَحَبُّ له أن يرضى بالإِقالة، ولا يُرْهِقُ أخاه من أمره عُسْرًا. وحينئذٍ معنى قوله: "لا يَحِلُّ له أن يُفَارِقَه"، أي لا يَحِل له على وجه =

<<  <  ج: ص:  >  >>