وحاصل الجميع. أن الصدقةَ إنما تَلِيقُ بمن لا يكون مُكتَسِبًا، مُعتَمِلًا، ولا يكون عنده شيءٌ يأكله ذو كبدٍ. وأمَّا من كان ذو مرَّة سوي، فأولَى له أن يَكتَسِبَ من أعمال يديه، وهذا الذي يَليقُ بشأنه، وهو مراد قوله: لا تَحِلُّ له". نعم من كان غنيًا ذا نصَاب، فهذا هو الذي لا تَحِلُّ له الصدقةُ أصلًا، ففي الحِلِّ مراتب، فصدق قوله: لا يَحِلُّ له أن يُفَارِقَ صاحبَه بحَسَبِ مرتبة من الحِلُ، أي لا يَحِلُّ له الحِلُّ كلُّه، وإن حلَّ بنوعٍ من الحِلِّ، ولكن حَلَّ الذي لا يكون حِلًّا من جميع الوجوه، لا ينبغي أن يُسمَّى حِلًّا، فنزل الحِلُّ الناقص منزلة المعدوم، وجاء النفيُ رأسًا. وبالجملة إن المفارقةَ بالأبدان مخافةَ الإِقالة أبعدُ من المروءة، وإعراضٌ عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أقال مسلمًا" ... إلخ. فالخِيَارُ الذي يبقى في المَجلِسِ بعد تمام العقد، هو الذي لا يَستَبِدُّ به أحدهما. والسِّرُّ في ذلك أن الشرعَ إنما أراد أن يَتِمَّ العقدُ عن تراضٍ، كما أخرجه الترمذيُّ مرفوعًا، قال: "لا يَتَفَرَقَنَّ عن بيع إلَّا عن تراضٍ". اهـ. فهذا هو غرض الشارع، ولذا حثَّهما على أن لا يتفرَّقا عن المَجْلِسِ خشيةَ الإِقالة، ولكن عليهما أن يَنظُرَا في أمرهما، حتى إذا أطمأَنَّا في عقدهما، وتَرَاضَيَا من كل وجهٍ، فحينئذٍ إن بدا أن يتفرَّقا عن المَجلِسِ، فلهما ذلك. فالمقصودُ هو الفُرْقَة على التراضي لا غير. ألا تَرَى أن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خيَّر أعرابيًا بعد البيع، كما عند الترمذي، مع أنه لم يكن له خيار، وذلك لأنه أراد أن يكون صاحبه في اطمئنان نفسٍ، وبرد قلبٍ، فإن رأى أن يَبِيعَ باع، وإن بدا له أن يَفْسَخَ فَسَخَ. ولا يَضطَرِبُ في أنه قد سبق منه القول، فلا يتمكَّن من الرجوع. ولو أمعنتَ النظر في قوله: "أو يختارا"، لوجدتَ المعنى، فإنه يَدُلُّ على أن نقض هذا الخيار وإبرامه بأيدي المُتَعَاقِدَين، ولذا لو قال أحدُهما للآخر: اختَرْ اختَرْ، بَطَلَ خيارُ المَجلِسِ، ولا يبقى بعده. فدَلَّ على أنه ليس من جهة نفس البيع، ولكنه نظرٌ في حال العاقدين، وتحصيلٌ لتمام التراضي. فإنه، وإن حَصَلَ بالعقد والإِيجاب والقَبُول أيضًا، لكن الذي يَحْصُلُ بعد التدبُّر، أتمُّ منه ما يَحْصُل في حال العقد، فرغَّب الشارع في أن لا يتفرَّق اثنان إلَّا بعد تمام التراضي. فثَبَتَ ممّا ذكرنا: أن خِيَارَ المَجلِسِ لا دَخل له في تمام العقد. فإذا أَوْجَبَ أحدُهما، وقَبِلَهُ الآخرُ، فقد تمَّ العقدُ، ولم يَبقَ خيارٌ أصلًا، ولكنه يَثْبُتُ له الخيارُ في المَجلِسِ تحصيلًا لكمال التراضي، تبرُّعًا ومروءةً. هذا ما فهمته من تقريره، ولعَمْرِي هو تقريرٌ أَنيقٌ في غاية المتانة، فاغتنمه غنيمةٌ باردةٌ. (١) وفي "المعتصر": فيَحْتَمِلُ أن يكونَ التفرُّقُ الذي حَكَى نافع عنه استعماله إياه، إنما كان يَستَعْمِلُهُ احتياطًا من قول غيره، لاحتمال الحديث له، مخافةَ أن يَلْحَقَهُ فيه من غيره خلاف ما يريده في بيعه. وأمَّا الجوابُ عن قصة أبي بَرْزَة الأسلَمِيِّ، فأجاب عنه الطَّحَاوِيُّ، كما فيه: أنه لا يَصِحُّ الاحتجاح في إثبات الخيار بعد العقد بهذا. ولا يقول أبو بَرْزَة: "وما أراكما تَفَرَّقْتُمَا"، لأنهما قد أقاما بعد البيع مدةً يتحقَّقُ تفرُّقهما بَدَنًا، ولو إلى حاجة الإِنسان، أو إلى صلاة، مما لو وقع مثله في صَرْفٍ تَصَارَفَاهُ قبل القبض لفسد الصَّرْف. فكذلك لو كان الخيارُ واجبًا بعد عقد البيع لقطعته هذه الأشياء. فدَلَّ أن التفرُّق عند أبي بَرْزَة لم يكن التفرُّق بالأبدان. ثم أخرج الطحاويُّ في لفظ أبي بَرْزَة: "البيِّعَان بالخيار ما لم يتفرَّقا، وكانا في خِبَاءٍ" ورُوِيَ عن سَمُرَة بن جُنْدَب مرفوعًا: "البيِّعَان بالخيار ما لم يتفرَّقا، ويأخذ كلُّ واحدٍ منهما ما رَضِي من البيع" ... إلخ. واحفظ لفظ: "ما رضي من البيع"، فإنه يُشعِرُ بأن العمود في هذا الباب هو رضاء العاقِدَيْن. ليبارك لهما في بيعهما. ولذا خيَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعرابيًا، كما مرَّ. وجملة المقال بعد هذا الإطناب والإِسهاب: أن الخيارَ عندهم لازم على شاكلة المسألة، وعندنا لتحصيل الرضاء وتحتُّمه، وذاك أمرٌ قد يحتاج إليه بعد العقد، كما في الإقالة، فخيَّره الشرعَ، وحرَّضه عليه لذلك. والله تعالى أعلم بالصواب.