نعم هناك كلامٌ في "المعتصر" يُفيدُك شيئًا في هذا الباب. قال القاضي أبو المحاسن في "المعتصر": قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ: "خُذِيها واشْترِطي لهم الوَلاء، فإنما الوَلَاءُ لمن أعْتَقَ"، لا يجوز أن يُبِيحَ لعائشةَ أن تَشْتَرِطَ خلاف ما في شريعته. ولكن لم يُوجَدْ اشتراط الوَلَاء في حديث عائشة إلَّا من رواية مالك، عن هشام. فأمَّا من سواه، وهو اللَّيْث بن سَعْد، وعَمْرُو بن الحارث، فقد رَوَيَا عن هشام: أن السؤالَ لوَلَاء بَرِيرَة إنما كان من عائشةَ لأهلها بأداء مُكَاتَبتهَا إليهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمْنَعُكِ ذلك منها، ابتاعي وأعْتِقي، فإنما الوَلَاءُ لمن أَعْتَقَ". وهذا خلافُ ما رواه مالك، عن هشام: "خُذِيها واشْتَرِطي، فإنما الوَلَاءُ لمن أعْتَقَ"، مع أنه يَحْتَمِلُ أن يكون معنى اشترطي: أَظْهِرِي، لأن الاشتراطَ في كلام العرب هو الإِظهار، ومنه قول أوس بن حجر: فَأَشْرَطَ فيها نَفْسَه، وهو مُعْصَمٌ ... فأَلْقَى بأسْيَافٍ له، وَتَوكَّلا أي أظهر نفسه. أي أظهري الوَلَاءَ الذي يُوجِبُهُ عتَاقُكِ، أنه لمن يكون ذلك العِتَاق منه، دون مَنْ سِوَاهُ. وقال بعضٌ: إن معنى اشتَرِطِي لهم: أي عليهم كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: ٧] وقال محمد بن شجاع: هو على الوعيد الذي ظاهره الأمر، وباطنه النهي، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، وكقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} الآية ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - صَعَدَ المنبر وخَطَبَ، فقال: "ما بالُ رجالٍ يَشتَرِطون شروطًا ليست في كتاب الله عزَّ وجلَّ، اهـ. وإذا انفرد مالك، عن هشام، وخالفه عمرو بن الحارث، واللَّيْث بن سَعد، كانا أَوْلَى بالحفظ من واحدٍ. وحديثُ عائشةَ ذُكِرَ من وجوهٍ بألفاظِ شديدةِ الاختلاف، غير أنه لا شيءَ فيه من إطلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل بَرِيرَة ما كان منهم من اشتراطهم الوَلَاء، لإِطلاق عائشة ذلك لهم. مِمَّنْ روى عن عائشة: ابن عمر، والأسود بن يزيد، والقاسم بن محمد، وعَمْرَة ابنة عبد الرحمن. وعن ابن أيمن: حدَّثني أبي. قال: "دخلتُ على عائشة، فقالت: دَخَلَت على بَرِيرَةُ، فقالت: اشتَرِيني وأَعْتقِيني، فقلت: نعم، فقالت: إن أهلي لا يَبِيعُوني حتى يَشْتَرطوا وَلَائي، فقلت لها: لا حاجةَ لنا بذلك. فسمع ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: اشترِيها، فأَعْتِقِيها، واشتَرَطَ أهلُها الوَلَاءَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الولاءُ لمن أَعْتَقَ، وإن اشترط مائة شرط. وكأن في حديث أيمن: ودَعِيهم فَليَشتَرِطُوا ما شاؤوا على الوعيد، ورواه ربيعة عن القاسم بمعنى الوعيد، قال: "كان في بريرة ثلاث سنن، أرادت عائشةُ أن تَشتَرِيها وتُعْتِقَها، فقال أهلُها: ولنا الوَلَاءُ، فَذَكَرَتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لو شِئتِ شَرَطتِهِ لهم، فإنما الولاءُ لمن أَعْتَقَ. ثم قام قبل الظهر، أو بعدها، فقال: "ما بَالُ رجالٍ يَشتَرِطُون" ... إلخ. الحديث. فقوله: "لو شِئتِ شَرَطتِهِ" على الوعيد، لا على إطلاق ذلك لها أن تَشتَرِطَهُ لهم. وعن الأسود، عن عائشة: "أنها اشتَرَت بَرِيرَة، فأعتقتها واشتَرَطَتْ لأهلها الوَلَاءَ، فذكرت ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما الوَلَاءُ لمن أَعْتَقَ". وعن منصور: "أنها اشْتَرَتْ بَرِيرَة لتعتقها، فاشتَرَطَ أهلُها الوَلَاءَ، فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني اشْتَرَيتُ بَرِيرَة لأعتقها، واشترط أهلُها وَلَاءها، فقال: الولاءُ لمن أعتق" فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كله. ثم اعلم أن بعضَ الناس استدلَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ: "اشتَرِيهَا واعْتِقِيهَا" على أن ابتياعَ عائشةَ كان بأمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على =