فلم يُذْكَر في الحديث، فإن كان نقدًا، فلا خلافَ فيه لأحدٍ. وعند الترمذيِّ في حديث العَرِيَّة:«ونهى عن بيع كل ثمرٍ بِخَرْصِها»، مع أنه لو كان بالدينار والدراهم، جاز إجماعًا. فالنهيُ فيه للشَّفعقَةِ بالاتفاق، فلم يَخْلُصْ الحديثُ لأحدٍ، وتُوزَنا فيه وزنَ المثقال.
ونقول أيضًا: إن التمرَ والرُّطَبَ من الأموال الزَّبَوِيَّة، ويُنَاسِبُ فيها الإِطلاق، فَقُلْنا بالحرمة مطلقًا، ولم نُجِرْ فيها التخصيص. وعلى هذا، فأحاديثُ النهي عن المُزَابنة على عمومها عندنا، بلا تخصيصٍ، والاستثناءُ فيها منقطعٌ، لعدم دخول العَرَايا في المُسْتَثْنَى منه. ويَلْزَمُ على الشافعية مخالفةُ اللغة، ومخالفةُ ما عند شعرائهم فيه، ومخالفةُ أعلم رجلٍ في هذا الموضوغ، وإجراءُ التخصيص في الأموال الرِّبوية.
فإن قلتَ: يَرِدُ عليكم استثناء العَرَايا من البيع، فإن ظاهرَه كونها بيعًا، وثانيًا الرجوع في الهِبَة، وثالثًا لا معنى لتخصيص خمسة أَوْسُق على مذهبكم، فإن هِبَةَ الخمسة والرجوعَ عنها، كهبة ألف أَوْسُقٍ، والرجوعِ عنها. قلتُ: أمَّا ما قُلْتَ من استثناء العَرَايَا من البيع، فقد سَمِعْتَ آنفًا أنه استثناءٌ منقطعٌ عندنا، ونزيدك إيضاحًا، فنقول: إن العَرِيَّةَ على مذهب الحنفية استردادٌ للهبة الأولى، واستئنافٌ في الِبَة الثانية. ولكنه تخريجٌ ونظرٌ، وليس في الظاهر إلا استبدال الرُّطَب بالتمر، ولا رَيْبَ أنه بيع حِسًّا، وإن عبَّرناه استردادًا، واستئنافًا على الأصل. وحينئذٍ لا بِدَعَ في كونها مستثناةً من البيع، ولا حَجْر في التغبيرات والعبارات، فإنها تأتي في مبنيةً على الحسِّ. وقد نبَّهناك مِرَارًا أنه ليس على الرُّواة إخراج العبارات كاشفةً عن تخريج المسائل أيضًا. وإنما هم بصدد النقل المجرَّد، فَيُخَرِّجُون عباراتهم على ما سَنَحَ لهم في ذلك الحال. وعلى هذا فالأشجار بعد العَرِيَّة إذا نُسِبَتْ إلى المَعْرَى له، كأنها مِلْكُهُ، ثم ردَّها المُعْرَى له إلى المالك، بعوضٍ من التمر، كأنه يبيعها منه، صارت صورتُها صورةَ البيع فطعًا، سواء سمَّيته استردادًا، أو هِبةً، أو ما بدا لك. فإن الراوي لا بحثَ له من أن تخاريجك فيه ماذا.
ومن ههنا انحلت عُقْدةٌ أخرى في حديث جابر عند البخاري، قال جابر، في بيان صفة صلاته صلى الله عليه وسلّم في الخوف:«كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم أربعٌ، وللقوم ركعتان». اهـ. وهذا لا يَصِحُّ على مذهب الحنفية، وحَمْلُه على حال الإِقامة باطلٌ، كما ذكرناه في تقرير الترمذي. وجواب الطحاويِّ نافذٌ. والجواب على ما ظَهَرَ لي: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صلاها في ذات الرِّقَاع على الصفة المختارة عند الشافعية، فصلَّى بطائفةٍ ركعةً، ثم ثَبَتَ قائمًا حتى أَتَمُّوا لأنفسهم، وجاءت الأخرى، فصلَّى بهم كذلك، فاعتبر الراوي ركعته صلى الله عليه وسلّم ركعةً، ومُكْثَةُ بقدر ما أَتَمُّوا لأنفسهم ركعةً أخرى، فعبَّر عنه بالركعتين. وكانت الركعتان في الحقيقة لمن خلفه صلى الله عليه وسلّم وإنما نَسَبَهُمَا إليه أيضًا لتأخيره بتلك المدَّة، ومُكْثِهِ فيها، فإذا تضمَّنت ركعته صلى الله عليه وسلّم ركعتيهم، تضمَّنت ركعتاه لأربعهم لا مَحَالة. وهذا وإن كان يرى تأويلا في بادىء النظر، لكنه مُؤَيَّدٌ بما يُرْوَى عن جابر في عين تلك القصة.
فقد أخرج البخاريُّ: عن صالح بن خَوَّات، عمن شَهِدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم ذات الرِّقَاع صلاةَ الخوف: «أن طائفةً صفَّت معه، وطائفةً وِجَاه العدو، فصلَّى بالتي معه ركعةً، ثم ثَبَتَ قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم. ثم انصرفوا، فصفُّوا وِجَاه العدو. وجاءت الطائفةُ الأخرى، فصلَّى بهم