للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الركعةَ التي بقيت من صلاته، ثم ثَبَتَ جالسًا، وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم». اهـ.

فهذا صريحٌ في أن القومَ فَرَغُوا بعد ركعتين ركعتين، وأمَّا النبيُ صلى الله عليه وسلّم فلم يَفْرُغ عن صلاته حتى فَرَغُوا جميعًا. فكانت لهم ركعتان ركعتان، وكانت للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم أيضًا ركعتان، كما ذكره الراوي ههنا، إلا أنه لمَّا مَكَثَ بعد ركعةٍ بقدر ركعةٍ، وانتظر القوم عبَّر عنه الراوي هناك بالركعة، وعَدَّ له أربع ركعات بهذا الطريق. ولا بُدَّ، فإن الواقعةَ واحدةٌ، فلعلَّك عَلِمْتَ الآن حال تعبير الرواة أنه لا يُبْنَى على مسألةٍ فقهيةٍ فقط، بل يأتي على عبارات وملاحظ تَسْنَخُ لهم عند الرواية.

وأمَّا الجوابُ عن الرجوع في الهِبَةِ. والدليلُ على أنه لا بُدَّ في قبض الثمار من الجِذَاذِ ما رواه الطحاويُّ: «أنه لمَّا احْتَضَرَ أبو بكر قال: إني قد كنتُ أَعْطَيْتُكَ ثمارًا في الغابة، فلو كنتَ جَذَذْتُها لكانت لك، إلا أنك ما جَذَذْتَهَا إلى الآن، فهي حينئذٍ ميراثٌ للورثة» بالمعنى. وبه أَفْتَى عمر. فَدَلَّ على أن الهِبَةَ لا تَتِمُّ إلا بالقبض، وأن الثمارَ لا قبضَ فيها إلا بالُجُجِذَاذِ.

أما قولك: إنه لا معنى لتخصيص خمسة أَوْسُق على مذهبكم، فنقول: أمَّا أولا فكما ذكره الطحاويُّ: أنه ليس فيه ما ينفي أن يكونَ حكمُ ما هو أكثر من ذلك، كحكمه في خمسة أَوْسُق. وإنما يكون ذلك لو قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم لا تكون العَرِيَّة إلا في خمسة أَوْسُق، أو فيما دون خمسة أَوْسُق. فإذا كان الحديثُ: «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم رخَّص في بيع العَرَايا (١) في خمسة أَوْسُقٍ، أو فيما دون خمسة أَوْسُقٍ»، فذلك يحتمل أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم رخَّص فيه لقومٍ في عَرِيَّةٍ لهم، هذا مقدارها. فنقل أبو هُرَيْرَة ذلك، وأخبر الرُّخْصَة فيما كانت. ولا ينفي ذلك أن تكونَ تلك الرخصة جاريةً فيما هو أكثر من ذلك. اهـ.

وأمَّا ثانيًا، فعلى ما أقول: إن المعاملةَ المذكورةَ لمَّا كانت بيعًا حِسًّا ناسب فيها التضييق، لئلا تقوم أصلا للمعاملات الرِّبَوِيَّة. فإن الشافعيةَ أيضًا قَصَرُوها على خمسة أَوْسُقٍ، غير أنهم جعلوها استثناءً من معاملة الرِّبا حقيقةً. ونحن قَصَرْنَاها على المقدارِ المذكور لمظنَّة جريان الربا فيما عَدَاها. ثم لو سَلَّمْنَا أن العَرِيَّةَ هي البيعُ دون الهِبَةِ، فقد أُخْرِجَتْ لها صورة الجواز على مسائلِ الحنفية أيضًا، وهي: أن بيع الععرِيَّة على نحوين: الأول: أن يقولَ: بِعْتُ ثمارَ هذه الشجرة التي أَخْرُصُهَا خمسة أَوْسُق، بدل كذا من التمر. والثاني: أن يقولَ: بِعْتُ خمسة أَوْسُقٍ من ثمار هذه الشجرة، بدل كذا من التمر. والأول لا يجوز، بخلاف الثاني، وهو المحمل عندي.

والفرق أنه باع على الأول ثمارها خَرْصًا، فإن خرجت خمسة أَوْسُقِ فذاك، وإلا فلا ضمان عليه، لأنه لم يبع خمسة أوسق، ولكنه باع ثمارها، سواء خرجت بهذا المقدار، أو لا،


(١) قلتُ: وإطلاقُ البيع على العَرَايا في هذه الرواية لعلَّه مأخوذٌ من استثنائها من البيع، فإنه ليس من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وإنما هو من لفظ الراوي، يحكي عن رُخَصِهِ - صلى الله عليه وسلم - في العَرَايا. فاعلمه.

<<  <  ج: ص:  >  >>