للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والخرص لا يطابق الواقع دائمًا، ففيه احتمال الربا، لأنه بيع التمر بالتمر، ولا بد فيه من التساوي، وذلك معدوم في هذا الفصل، بخلاف الثاني، فإنه عقد على خمسة أوسق، وليس الخرص فيه إلا في الذهن، فإنه خرصها في ذهنه أن ثمار هذه الشجرة تكون خمسة أَوْسُقٍ، ثم باعها منه. فليس الخَرْصُ في الخارج، وهو لحفظه في ذهنه فقط. فإذا أَسْلَمَ إليه يَكِيلُها لا مَحَالة، ليُسْلِمَ إليه خمسة أَوْسُق، فلا احتمال فيه للربا. وعلى هذا لم يَرِدْ العقدُ على المَخْرُوص، بل وَقَعَ على المعيَّن،، ولا بأسَ بكون هذا المعيَّن مَخْرُوصًا في أول الأمر في ذهنه، بل هو مفيدٌ. أمَّا في الخارج، فلا يسْلِمُ إليه إلا مكيلة. ثم الكيلُ وإن لم يكن معروفًا في الرُّطَب فيما بينهم لتعسُّره فيها، ولكنه إذا تحمَّله على نفسه والتزمه وَجَبَ عليه أن يَكِيلَها. حينئذٍ جَازَتْ العَرِيَّةُ بيعًا على مسائلنا أيضًا. وجملةُ الكلام: أن المبيعَ في العَرِيَّة عندهم مَخْرُوصٌ أولا وآخرًا، وعندنا مخروصٌ أولا، وفي الذهن فقط، ومعيَّنٌ آخِرًا، وعند التسليم. فإن ادَّعَيْتَ بجوازها، لم يُخَالِف مسائلنا بشيءٍ.

ثم اعلم أن تلك عند أبي عُبَيْد هي التي اسْتُثْنِيَت في باب الزكاة في قوله صلى الله عليه وسلّم «ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ صَدَقةٌ بعينها» فيكون عنده تفسيرًا لأربعًا (١).


(١) قلتُ: وكان شيخي يَنْقُلُه عن أبي عُبَيد، إلَّا أن كتابَه المعروف "بكتاب الأموال" لم يكن طُبعَ يومئذٍ، فلم أكن أحْصُل منه غير الطَّلِّ. حتى إذا جاءنا مطبوعًا بعد وفاة الشيخ. فَرَاجَعْتُ كلامَه، فانكشف الحال على جليته.
قال أبو عُبَيْد: وأمَّا تفسيرُ الآخر، فهو: أن العَرَايا هي النخلات يستَثْنِيها الرجلُ من حائطه إذا باع ثمرته، فلا يُدْخِلُها في البيع، ولكنه يُبقِيها لنفسه وعِيَاله. فتلك الثُّنْيا لا تُخْرَصُ عليه، لأنه قد عُفِي لهم عمَّا يأكلون تلك الأيام. فهي العَرَايا سُمِّيَت بذلك في هذا التفسير، لأنها أُعْرِيَتْ من أن تباعَ، أو تُخرَصَ في الصدقة. فأَرْخَصَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأهل الحاجة والمسكنة، الذين لا وَرِقَ لهم، ولا ذهب، وهم يَقْدِرُون على التمر: أن يَبتَاعُوا بتمرهم من ثمار هذه العَرَايا بِخَرْصِهَا. فعل ذلك بهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ترفُّقًا بأهل الفاقة الذين لا يَقدِرُون على الرُّطَب ليُشَارِكُوا الناسَ فيه، فيصيبوا منه معهم. ولم يرخِّص لهم أن يَبْتَاعُوا منه ما يكون لتجارةٍ، ولا لادخارٍ.
قال أبو عُبَيْد: فهذا التأويلُ أَصَحُّ في المعنى عندي من الأول، لأن له شَاهِدَين في الحديث. أمَّا أحدهما، فشيءٌ كان مالك يُحَدِّثُهُ عن داود بن الحُصَيْن، عن أبي سُفْيَان -مولى ابن أبي حمد- وفي نسخةٍ: -مولى ابني أحمد- عن أبي هُرَيْرَة: "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ في العَرَايا بِخَرْصِهَا، خمسة أَوسُقٍ، أو ما دون خمسة أَوْسُقٍ". كان مالك يقول: الشَّكُّ من داود، حدَّثنيه ابن بُكَيْر عنه.
قال أبو عُبَيد: وأَحْسِبُ أن المحفوظَ منهما إنما هو ما دون خمسة أَوْسقٍ، لأن توقيتَه - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وتركه الرُّخصة في خمسة أَوْسُقٍ تبيِّن لك أنه إنما أَذِنَ في قدر ما لا يَلْزَمه الصدقة. لأن سنته "أن لا صدقةَ في أقلِّ من خمسة أَوْسُقٍ، وأن لا صَدَقَةَ في العَرَايا" فهذه تلك بعينها. والحديث يُصَدِّق بعضُه بعضًا. وتقليله ذلك يُخبِرُك أنه إنما أَرْخَصَ لهم في قدر ما يأكلون فقط، فهذا أحد الشَّاهِدَيْن ... إلخ، ولعل في الجملة الأخيرة سَقطٌ، فتبيَّن منه أن ما دون الخمسة في العَرِيَّة هي التي عفا عنها في باب الزكاة عنده.
وحينئذٍ ظَهَرَ لك وجهٌ لسقوط الصدقة عمّا دون خمسة أَوْسُقٍ في باب الزكاة، وهو: أنه كان هذا المقدار مشغولًا بحوائجهم يَحْفَظُونَهُ لأنفسهم، وعِيَالهم، ولمن نزل عليهم. لا أن الصدقةَ لا تَجِبُ فيه، وأن لها نِصَابًا عند الشرع لا تَجِبُ إلَّا عند وجوده. فالصدقةُ واجبةٌ في كل ما خَرَجَ من الأرض عندنا، إلَّا أن قدر خمسة أَوْسُق يكون مشغولًا بحوائجهم، مهَيأً لأكلهم وضيفهم، فَسَقَطَت عن هذا المقدار. وقد قال الخطابيُّ نحوه بعينه في شرح حديث =

<<  <  ج: ص:  >  >>