والشافعيُّ يشترط في إعطاء التمر الذي يُبَاعُ به العَرِيَّة أن يكونَ نقدًا، ويقول: إن تفرَّقا قبل القبض فَسَدَ البيع. والعَرِيَّةُ جائزةٌ عند مالك في كل ما يَيْبَسُ، ويُدَّخَرُ. وهي عند الشافعي: في التمر والعنب فقط. ولا خِلَافَ في جوازها فيما دون الخمسة الأَوْسُق عند مالك، والشافعي. وعنهما الخِلَافُ، إذا كانت خمسة أَوْسُقٍ، فرُوِي الجوازُ عنهما والمنع. والأَشْهَرُ عند مالك الجواز. فالشافعيُّ يُخَالِفُ مالكًا في العَرِيَّةِ في أربعة مواضع: أحدها: في سبب الرُّخصة، كما قلنا. والثاني: أن العَرِيَّةَ التي رخَّص فيها ليست هِبَة، وإنما سُمِّيَتْ هبةٌ على التجوُّز. والثالثُ: في اشتراط النقد عند البيع. والرابع: في محلها، فهي عنده، كما قلنا، في التمر والعنب فقط، وعند مالك في كل ما يُدَّخَرُ وَييْبَسُ. وأمَّا أحمد بن حنبل، فَيُوَافِقُ مالكًا في أن العَرِيَّةَ عنده هي الهِبَةُ، ويُخَالِفُهُ في أن الرُّخصةَ إنما هي عنده فيها للموهوب له، أعني المُعْرَى له لا المُعْرِي. وذلك أنه يَرَى أن له أن يَبِيعَها ممن شاء بهذه الصفة، لا من المُعْرِي خاصة، كما ذهب إليه مالك. وأما أبو حنيفة، فَيُوافِقُ مالكًا في أن العَرِيَّةَ هي الهِبَةُ، ويُخَالِفُه في صفة الرُّخصةُ. وذلك أن الرُّخصةَ عنده فيها ليست هي من باب استثنائها من المُزَابنة، ولا هي في الجملة في البيع، وإنما الرُّخصةُ عنده فيها على باب رجوع الواهب في هبته، إذا كان الموهوب له لم يَقبِضْها. وليست عنده ببيع، وإنما هي رجوعٌ في الهِبَةِ على صفةٍ مخصوصةٍ، وهو أن يُعْطِي بدلها تمرًا بِخَرْصِهَا. وعُمْدَةُ مذهب مالك في العَرِيَّة: أنها بالصفة التي ذَكَرَ سُنَّتَها المشهورةَ عندهم بالمدينة، قالوا: وأصلُ هذا أن الرجل كان يَهَبُ النَخَلات من حائطه، فَيَشُقُّ عليه دخول الموهوب له عليه، فأُبِيحَ له أن يشتريها بِخَرْصِهَا تمرًا عند الجُذَاذ. ومن الحُجَّة له في أن الرُّخصةَ إنما هي للمُعْرِي: "حديث سَهْل بن أبي حَثْمة: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن بيع الثمر بالرطب. إلَّا أنه رخَّص في العَرِيَّة أن تُبَاع بِخَرْصِهَا، يَأْكُلُهَا أَهُلُها رُطَبًا". قالوا: فقوله: "يأكُلُهَا رُطبًا": دليلٌ على أن ذلك خاصٌّ بمُعْرِيها، لأنهم في ظاهر هذا القول أهلها. ويمكن أن يُقَالَ: إن أهلها هم الذين اشتروها، كائنًا من كان، لكن قوله: رطبًا هو تعليل، لا يناسب المعري، وعلى مذهب الشافعي هو مناسب، وهم الذين ليس عندهم رُطبٌ ولا تَمْرٌ يشترونها به، ولذلك كانت الحُجَّة للشافعي. وأمَّا أن العَرِيَّة عنده هي الهِبَةُ، فالدليلُ على ذلك من اللغة، فإن أهلَ اللغة قالوا: العَرِيَّةُ هي الهِبَةُ. واختلفوا في تسميتها بذلك، فقيل: لأنها عَرِيَتْ من الثمن، وقيل: إنها مأخوذةٌ من عَرَوْتُ الرجل أعْروه، إذا سألته، ومنه قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: ٣٦] وإنما اشترطَ مالك نقد الثمن عند الجُذَاذِ -أعني تأخيره إلى ذلك الوقت- لأنه تمرٌ وَرَدَ الشرطُ بِخَرْصِهِ، فكان من سُنَّته أن يتأجَّلَ إلى الجُذاذ، أصلُه الزكاة، وفيه ضعفٌ، لأنه مصادمةٌ بالقياس لأصل السُّنة. وعنده أنه إذا تطوَّعَ بعد تمام العقد بتعجيل التمر جَازَ. وأمَّا اشتراطُه جوازها في الخمسة الأَوسُق، أو فيما دونها، فلِمَا رواه عن أبي هُرَيْرَة: "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ في بيع العَرَايا بخَرْصِها فيما دون خمسة أَوْسُقٍ، أو في خمسة أوْسُقٍ". وإنما كان عن مالك في الخمس الأوْسُق روايتان، للشَّكِّ الواقع في هذا الحديث من الراوي. وأمَّا اشتراطُه أن يكونَ من ذلك الصنف بعينه، إذا يَبِس، فَلِمَا رُوِيَ عن زيد بن ثابت: "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص لصاحب العَرِيَّة أن يَبِيعَها بِخَرْصِهَا تمرًا"، أخرجه مسلم. وأما الشافعيُّ فعمدته حديث رافع بن خَدِيج، وسَهْل بن أبي حَثْمَة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نَهَى عن المُزَابنة التمر بالتمر"، إلَّا أصحاب العَرَايا، فإنه أَذِنَ لهم فيه، وقوله فيها: "يَأْكُلُهَا أَهْلُها رُطبًا". والعَرِيَّة عندهم هي اسمٌ لِمَا دون الخمسة الأَوْسُق من التمر، وذلك أنه لمَّا كان العُرْف عندهم أن يَهَبَ الرجل في الغالب من نَخَلاته هذا القدر فما دونه، =