الفور. وحينئذٍ يَلْغُو قيد قبل البُدُوِّ في النصِّ، ولا تَظْهَرُ له فائدةٌ. فإن الحكمَ عند وجوده، وعدمه سواء عندنا من غير فرقٍ. فَوَرَدَ علينا الحديثَ مفهومًا ومنطوقًا. وما أَجَابَ به بعضُهم: أن المفهومَ ليس بحُجَّةٍ عندنا، ليس بشيءٍ، لما مرَّ منا تحقيقُ الكلام في المفهوم، فإنه يَحْتَاجُ إلى بيان نُكْتَةٍ لا مَحَالة، وإن لم يكن مَدَارًا للمسألة.
وقد أجاب عنه الطَّحَاويُّ بنحوين: أما الأول، فحاصله: أن الحديثَ لم يَرِدْ في تلك التفاصيل، فإنه وَرَدَ في النهي عن البيع قبل البُدُوِّ شفقةً، وإن جاز شرعًا في بعض الصْوَرِ، لأنه قد يُفْضِي إلى تلف مال المشتري، فيقوم بلا مالٍ ولا مبيعٍ. كما أنه لو باعه قبل البُدُوِّ وأصابته عاهةٌ، فاجْتَاحَتْ الثمار، بقي المشترى ولا مالَ له ولا ثمارَ، فنهى عنه لذلك. فليس هذا الحديث مُتَعَرِّضًا إلى الصُوَر المذكورة، فَلْيَكِلْها إلى الاجتهاد أو غيره.
أما الثاني، فبيانه: أن الحديثَ ورد في السَّلَم، ذلك لأن أهلَ المدينة قبل مقدمه صلى الله عليه وسلّم كانوا يُسْلِفُون في الثمار لسنةٍ أو سنتين، فنهى عن ذلك، إلا أن يُسْلِفُوا في كَيْلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجل معلومٍ. ويُشْتَرَط في بيع السلم وِجْدَانُ المبيع من حين العقد إلى وقت التسليم عندنا أيضًا، فلا بُدَّ أن يكونَ بعد البُدُوِّ، والأمن عن العاهات. والحاصلُ: أن النهي عن البيع قبل البُدُوِّ ليس في البَيَاعَات العامة، بل في السَّلَم خاصةً. ولا نُنْكِرَ فيه بمَنْطُوقِ الحديث، ولا بمفهومه، فكأن الحديثَ من بابٍ، وحَمَلُوه على بابٍ، فَأَوْجَبَ فساد المعنى.
هذا، والذي ظَهَرَ لي في جوابه على ما قرَّره صاحب «الهداية» من المذهب: أن البيعَ بشرط القطع خارجٌ عن مدلول الحديث، فإن البائِعَيْن إذا رَضِيَا بأمرٍ لم يَدْخُل فيه الشارعُ، ولا تعرَّض إليه. فبقيت فيه أربع صُوَرٍ: بشرط الإِطلاق، وبشرط الترك قبله، أو بعده. أمَّا البيعُ بشرط الإِطلاق، فهو راجعٌ إلى القسم الأول، أي البيع بشرط القطع، لأنه إطلاقٌ في اللفظ فقط. ولا يكون في الخارج إلا القطع أو الترك، فإن أَمَرَهُ البائعُ وَج عليه القطعُ، على ما مرَّ، فَيَرْجِعُ إلى القسم الأول، وإلا يَنْدَرِجُ في الثاني.
أمَّا البيعُ بشرط الترك، فهو غير جائزٍ في الفصلين، وذلك لاشتماله على شرطٍ فيه نفعٌ لأحد المُتَعَاقِدَيْن، وكلُّ شرطٍ كذلك، فهو مُفْسِدٌ للبيع، فهذا أيضًا مُفْسِدٌ له، سواء كان قبل البُدُوِّ أو بعده. بقي قيد:«قبل البُدُوِّ» في الحديث، فنقول: إنه ليس بِمَنَاطٍ للحكم. ولكن المعروفَ عندهم في بيع الثمار كان قبل البُدُوِّ، فجاء تَبَعًا للواقع، لا لكونه مَدَارًا. وأما الجوابُ على ما ذهب إليه السَّرَخْسِيُّ، وغيره من الفصل في صورة الإِطلاق، فالجوابُ: أن البيعَ بشرط القطع، فهو مستثنىً عقلا، كما أقرَّ به الشافعيُّ أيضًا. وأمَّا البيعُ بشرط الترك، فغيرُ جائزٍ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم «نهى عن بيعٍ وشرطٍ». بقي البيعُ بشرط الإِطلاق، فهو جائزٌ بعد البُدُوِّ لا قبله، وهو محمل الحديث، فقد علَمْنا بمَنْطوقِهِ ومفهومه أيضًا.
وحاصلهُ: أن الصورةَ الواحدةَ، وهي صورة القطع، مستثناةٌ عقلا بلا نزاع بين الفريقين. أمَّا صورةُ الترك، فادَّعَيْنَا استثناءها من أجل الحديث:«نهى عن بيعٍ وشرطٍ»، فلم تَبْقَ تحته إلا صورةٌ واحدةٌ، واشتركنا فيها معهم في الحكم مَنْطُوقًا ومفهومًا. وهي التي تُنَاسِبُ أن تكونَ