للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الأرض أيضًا سبعًا، فلم يُومِ إليه القرآن إلا في سروة الطلاق. فقال {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (١) [الطلاق: ١٢] وفيه أيضًا إبهامٌ شديد؛ فإِنَّ المِثْلية مبهمةٌ لا ندري ماذا أُريد منها؟ فيمكنُ أن يكون المرادُ المِثْلية في العدد، ويمكنُ أن تكونَ الأرضُ واحدةً (٢)، ثم تكون لها طبقاتٌ تُسمَّى كلُّ طبقةٍ منها أرضًا؛ ألا ترى أنَّه لم يَقُل: ومَنْ الأَرضين مِثْلهن، بل قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ} فأَبْهم غايةَ الإِبهام؛ نعم ما في البخاري: طوِّقَه من سَبْع أَرْضين، صريح فيه؛ وأَصْرحُ منه ما عند الحاكم في «مستدرَكه»، والبيهقي في كتاب «الأسماء والصفات»، وصحَّحه عن ابن عباس (٣)، وفيه أنَّ الله تعالى خَلَق سَبْعَ أَرَضين، في كلِّ أرضٍ آدمُ كآدمنا، ونوحٌ كنوحِنا، إلى أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم أي محمدٌ كمحمدنا، اهـ بالمعنى.

قلت: وهذا الأَثَرُ شاذٌ بالمرّة، والذي يجب علينا الايمانُ به هو ما ثبت عندنا عن النبي صلى الله عليه وسلّم فإِن ثبت قَطْعًا أَكْفرنا مِنْكرَه، وإلا نَحْكُم عليه بالابتداع؛ وأما غيرُ ذلك مما لم يَثْبت عنه صلى الله عليه وسلّم فلا يلزمُنا تَسْلِيمُه والإِيمانُ به، والذي أَظُنُه أنَّ هذا الأَثَرَ مُركَّب من إبهام القرآن وتَصْريحِ الحديث، فقال القرآن: {مِثْلَهُنَّ} وصرَّح الحديثُ بكونها سبعًا، فتركَّب منه التفصيلُ المذكورُ في الحديث.

والظاهر أنه ليس بمرفوعٍ، وإذا ظَهَر عندنا مَنْشَؤه، فلا ينبغي للإِنسان أن يُعَجِّز نَفْسَه في شَرْحه، مع كونه شاذًّا بالمرَّة. وقد ألَّف مولانا النانوتَويُّ رسالة مستقلة في شَرْح الأَثَر المذكور، سماها «تحذير الناس عن إنكار أَثَرِ ابن عباس» وحقق فيها أَنَّ خاتميتَهُصلى الله عليه وسلّم لا يخالف أن يكون خاتَمٌ آخرُ في أَرْضٍ أُخْرى، كما هو مذكورٌ في أَثَرِ ابن عباس (٤). ويلوح من كلامِ مولانا النَّانُوتُويّ أن يكون لكلِّ أَرْض سماءٌ أيضًا، كما هو لأَرْضِنا، والذي يَظْهُر مِن القرآن كونُ السمواتِ السَّبْعِ كلِّها لتلك الأَرِيضَة، لأَن السَّبع موزعةٌ على الأَرضِين كذلك.


(١) قال الداودي: في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} دلالةٌ على أن الأرَضين بَعْضها فوق بعضٍ مِثْل السموات.
ونقل عن بعض المتكلمين أن المِثْلية في العدد خاصة، وحكى ابنُ التِّين عن بَعْضِهم أن الأرض واحدةٌ، قال: وهو مردودٌ بالقرآنِ والسُّنة. ثم أخرج الحافِظ عن أحمدَ، والترمذي من حديثِ أبي هريرة مرفوعًا: "إن بين كلِّ سماءٍ وسماء خَمْسَمائة عام، وأن سمك كلِّ سماءٍ كذلك، وأنَّ بين كلِّ أرْضٍ وأرضٍ خمس مائة عام" اهـ "فتح الباري" من بدء الخلق".
(٢) واستدل الداودي -من التطويق- على أن السَّبْع الأرَضين بعضها على بعض، لم يفتق بَعْضُها من بعض، قال: لأنه لو فتقت لم يطوق منها ما ينتفع به غيره، وقيل: بين كل أرض وأرض خمسمائة عام. اهـ.
(٣) أخرجه الحافِظ في "الفتح" من كتاب "بدء الخلق" وأخرج عن ابن عباس، قال: "لو حَدَّثْتُكم بتفسير هذه الآيةِ لكَفَرْتُم، وتكفيركم تكذيبكم بها"، وزاد من وجه آخر: وهنَّ مكتوباتٌ بَعْضُهنَّ على بَعْض".
(٤) قلت: ولقد كان الشيخُ النانوتوي تتفجَّر من صدرِه أنهارُ العلومِ اللَّدُنيِّة، ْ فأتى فيها ما تعجز عن إدراكه العقولُ، ويتحيَّر منه الفُحول، ولا يمكن لنا أن نلخصها، فعليك بأصلها، فإِنَّ فيها أبوابًا من العلوم: وحينئذٍ تَعْرف أن العِلْم بحرٌ لا ساحل له، وكم ترك الأولُ للآخِر؛ ولو أمكن لنا تلخيصُ كلامِه للخَّصْناه، لأنه لا بد علينا من توضيح كلام الشيخ، ولكنا رأينا أنفسَنا جاثيةً على رُكِبها، خارةً على وجهها، دون تخليصها، فلسنا نقدر؛ فإِن شئت فراجعها أنت، والله ناصرُك.

<<  <  ج: ص:  >  >>